بيروت - فاطمة عطفة

هل يقف الزمن ولو للحظات عندما يجتمع الإنسان بشخصية تشكل منارة فكرية وتمتاز برصيد وفير من العلم والثقافة والفنون؟ هكذا كان شعوري عندما التقيت السيدة نضال الأشقر واستمعت إلى حديثها وشاهدت العديد من هذه الإبداعات التي وهبها الله لها، فهي كاتبة وممثلة ومخرجة مسرحية، إنها كنز من المواهب ومسيرة طويلة حافلة بالعطاء. ويرى الزائر نماذج من كل هذه الفنون تزدان بها جدران بيتها الذي اختارت موقعه بالقرب من المسرح القديم في حي الصنايع، الطابق (9). وكانت سيدة المسرح قد تركت الباب مفتوحا لتستقبل ضيوفها بإطلالتها المشرقة وبهائها الجليل وثقافتها الغنية الواسعة.
جلت معها بين سحر اللوحات والتحف والقطع الأثرية والتراثية القديمة، سجادة حياكة يدوية من قرية (وصى واصف) من مصر، ولوحات لأمين الباشا من لبنان، واعمال للفنان معاذ الألوسي من العراق، إضافة إلى أن السيدة نضال تركت للذكرى المؤلمة لوحة من وحي احتراق بيروت للرسام رفيق شرف، وهناك أول لوحة للفنان العراقي الكبير شاكر حسن آل سعيد حصل عليها جائزة كبرى عام 1984، فضلا عن العديد من المنحوتات الحجرية والبرونزية المتنوعة، وفي الصدارة لوحة للفنان علي الجابري 'شجرة الدر' وهو دور شهير مثلته. ارتبط اسمها 'بمسرح المدينة' بعد أن أعادت له حضوره المشرق من جديد، كما كان لها الدور الكبير في تحريك الحركة المسرحية اللبنانية والعربية في الستينات والسبعينات، وكان لها الفضل الرائد في تأسيس أول فرقة عربية تجول في العالم العربي، كما تألقت نضال على خشبة المسرح وقدمت أهم الأدوار من نصوص لأهم الكتاب وعملت مع مخرجين متميزين، وأخرجت 'طقوس الإشارات والتحولات' ومسرحية 'منمنمات تاريخية' للكاتب الراحل سعد الله ونوس.

لبنان ملوث

ـ سيدة نضال، بيروت باريس الشرق كما يقال، أين التلاقي الثقافي والحضاري الذي أسس له المسرح والفنون والأدب في بيروت؟
* 'لا أعتقد أن لبنان هو باريس الشرق، كان من الممكن أن يكون ذلك بالنسبة لبيروت، بيروت الحضارة والثقافة والإبداع. ولكن لسوء الحظ بعد الحرب اللبنانية، أصبحت لدي قناعة راسخة أن هذا النظام لا ينتج سوى الطائفية والإقليمية والتعصب والعنصرية. وكما نشاهد لبنان بعد الحرب من التسعينات حتى الآن، في هذه العشرين سنة مازلنا في نفس المشكلات الطائفية العنصرية الإقليمية المتعصبة، المزارع الصغيرة السياسية، العقلية، الرجعية، يعني لا أظن أننا نُحسد على ما نحن فيه. جمال لبنان الطبيعي الجبال والوديان والبحر، حتى البحر ملوث والجبال نهشت من قبل تجار الرمل والحديد والصخر، اذهبي إلى جبال لبنان وانظري سوف ترين كيف نهشت، البيئة ملوثة، لبنان ملوث، لسوء الحظ حتى نفسية الناس تشعرين بأنها تعبة، وهناك فقر وعوز، لم أعد أرى إرادة في التغيير والتحسين والإصلاح. الماء، لدينا مشكلة حول الماء، تمطر في لبنان مدة خمسة أشهر أو ستة وليس لدينا ماء! عندما نخرج من مدينة بيروت، المشكلة الكبرى عند الفقراء ليس هناك ماء ولا كهرباء وليس هناك مدارس. الضمان الاجتماعي بحالة يرثى لها. لا أريد أن أُعطي هذه الصورة السوداوية، ولكن في نفس الوقت لم أعد أستطيع أن أكون متفائلة، ليس هناك ما يدعو للتفاؤل، سياسياً نحن في حالة يرثى لها. لم يفهم نصف اللبنانيين أننا في مأزق كبير إقليمي وعالمي، وكل ما خطط له من قبل أمريكا وإسرائيل والاثنتين معاً، كل ما خطط له قسم من اللبنانيين فشلناه. ولكن هذا ليس كافياً فهو لا يستطيع أن يبني، فنحن نمضي الوقت من حرب إلى حرب، وبين الحربين تكون هناك حالة من اليأس والضياع في لبنان، هذا لسوء الحظ.
ما الذي سيفعله المسرح؟ الشيء الوحيد الناجح في عالمنا هو المبدع، إذا كان شاعراً أو أديباً أو ممثلاً أو مخرجاً، وليس هناك شيء آخر. اذهبي لأي مكان في العالم سوف تلتقين بلبنانيين وبعرب متألقين في الأدب، في الفلسفة، في السينما، في المسرح، في أي شيء. لذلك، كما ترين لم أكن من قبل يائسة كاليوم، أنتِ اليوم عندي وقد شرفتني فأنا لدي احترام كبير لبعض الرموز منها جريدتكم. عندما أكون سوداوية أو رمادية كاليوم أتساءل: لماذا امرأة مثلي تقدم حياتها لمثل هذا البلد للحق العام بدون أي مقابل، حتى المدينة لا تعطيكِ (سيتباك). يعني في أي دولة في العالم إذا كتبنا كتاباً يتحدثون عنه بالجرائد، إذا عملنا أي عمل يذكرونه بالجرائد، هنا أنت تعطين ولا تأخذين شيئا، لذلك نحن نعمل في فراغ كبير، يعني نحن لا نعلم إذا كان ما نقوم به مجدياً أم لا، لا أعلم في الوقت الحاضر بعد أربعين سنة من العطاء في لبنان وفي الوطن العربي وفي العالم.. لا أعلم إن كان عملي يجدي شيئاً، هذه هي الحقيقة وهذا هو الوضع'.

فلسطين اولا

ـ هل هذا سببه وجود إسرائيل التي ما زالت جاثمة على صدر المنطقة والقضية الفلسطينية، أم هي الفوضى العارمة الموجودة والتي سببها عدم وجود الوعي الاجتماعي والثقافة القادرة على تهيئة المجتمع؟
* 'فلسطين أولا فلسطين ثانيا فلسطين ثالثاً، يعني لا نستطيع كجسم عربي أن نعيش ستين عاما وهناك خنجرٌ في خاصرتنا وقلبنا ونحن ننزف، ولا نستطيع فعل شيء. المقاومة اللبنانية والمقاومة الفلسطينية والمحاور الذكية التي حدثت والاستراتيجية في الوطن العربي، نحن لا نستطيع أن نقوم بأي شيء. إسرائيل تسيطر على أمريكا وليس العكس، وطالما القضية الفلسطينية ليس لها حل ولا تعود لأبنائها سنظل في هذه الحالة. لا يمكن أن يتغير العالم العربي طالما هذه الدمل في جسم العالم العربي. وأنا أعتقد أننا كلما تقدم العمر بنا أن الشيء الوحيد الذي نربحه من الوقت أن العرب الذين يعون القضية الفلسطينية لن يقبلوا بدور فلسطيني جزئي، سيقبلون بفلسطين كاملةً طالما إسرائيل لا تعطي الحق للفلسطينيين وأرضهم، سيصبح من الصعب أن يقبل الفلسطيني 'بشقفة' من الأرض. الوقت لصالحنا، هذا ما أعتقده لأن العربي عاد يحقن من جديد، لأنه في وقت من الأوقات لم تعد فلسطين على الموضة. أصبحت أقرأ الشعر، وأخذ الناس يتعجبون: ما بِها هذه تقرأ الشعر؟ فقد مضى عليها أربعون عاما وهي تقرأ شعراً عن فلسطين. الآن بوجود المقاومة اللبنانية والفلسطينية والأعداد الصغيرة في الأماكن المختلفة من مثقفين وكتاب وفلاسفة، ولكن عندما يموت هؤلاء القدماء تنتهي الخبرية، لأن الجيل الجديد لا يهمه أي شيء.
أنا أعتقد أن القضية الفلسطينية هي أكيد الأساس لكل ما يحصل في العالم العربي، ولكن ليس القضية الفلسطينية فقط. فلبنان حصل على استقلاله منذ سبعين عاماً، لماذا لم يستطع أن يقيم دولة؟ ما هذا النظام اللاهي؟ هذا النظام الفاسد والمفسد؟ نستطيع أن تكون لنا قضية فلسطينية ونقاوم وندافع عن هذه القضية بدولة واعية وقادرة، حديثة ومستقبلية، لا بدولة ضالة لا تستطيع أن تقوم بأي شيء. أوليس من المعيب أن دولة لبنان تعطي جيش لبنان ثلاثين مليون دولار؟ وهم على قصورهم ويخوتهم والنساء المشرشرين في العالم يدفعون أكثر (مش عيب)؟ لا يستطيع الواحد أن يقول الثقافة في لبنان ليس لها موازنة، موازنتها بقدر قصر من قصورهم. لذلك، هم لا يساعدوننا على الحياة، بل يساعدوننا على الموت، هم يريدون أن لا نكون موجودين. يعني إن أغلقت مسرحي غداً، ولم يعد يقدم أحد أي شيء، فهم لن يفتقدوني لأنهم عديمو الثقافة ولا يدركون أهمية الثقافة في لبنان، ولا يعلمون أن الرجل المثقف هو سلاح هذه الأمة، هو الذي يعلم المعرفة وهي أم لكل شيء في عالمنا. هم بفكرهم أنهم بالخزعبلات، بدولتهم الساقطة التي يسمونها استراتيجيات هي مجرد (حكي بلا طعمة) هل شاهدت بحياتك كلها حتى بفرنسا ثلاثين تلفزيونا: واحد للمسيحيين، واحد للمسلمين، واحد لميشيل عون، واحد لبري، واحد للحريري...الخ. هم يبذخون، وماذا ينثرون علينا؟! هذا الإعلام البائس المتعصب'.

المسرح وضعه صعب

* كيف يمكن إعادة المسرح إلى بيروت أو إلى الدول العربية وهل تجدين؟ دول الخليج تأخذ مكانة ثقافية من بيروت ومن دمشق؟
* 'أعتقد أن دمشق وبيروت وحتى فلسطين، وهي تحت نير الاحتلال، هناك حركة مسرحية كما قلت لك في البداية، إن المبدع العربي موجود وأصبح عالمياً. المبدعون العرب يستطيعون أن يحملوا الأدب والشعر والمسرح العربي لأي مكان في العالم، فهم موهوبون كثيراً رغم عدم وجود الرعاية. مثلاً، في لبنان هناك نهضة سينمائية مهمة جداً، وهناك نهضة مسرحية أقل لأن المسرح وضعه صعب، فالدولة لا تساعد المسرح وأنت تعلمين أن أي مسرح في العالم تدعمه الدولة. نحن في لبنان، هنالك الكثير من المواهب الشابة كتابا، موسيقيين، مسرحيين، هذا هو الشيء الوحيد الذي أستطيع أن أقول عنه إشارة إبداع فعلاً، شعراء مثلاً، الرواية السورية واللبنانية والفلسطينية والشعر في دولنا، هذا الهلال الذي سمي الهلال الخصيب ما زال فيه الإبداع ماشي. في العراق يدمرونهم وهم مازالوا يعطون، لذلك نرى المسرحيين هنا في مأزق لأنهم ليسوا مدعومين. أنا مثلاً في مسرحي، إذا استمررتُ على هذه الحالة سأقفل مسرحي مع أني إذا مت لا أقفل مسرحي، أنا أمام ضائقة يومية ومسرحي هو أكبر مسرح في لبنان، ولدي مسرح صغير ولدي صالة نهى الراضي العراقية الرسامة سميتها باسمها بعد أن توفيت، ولدي صالة سعد الله ونوس السوري الكاتب الأوحد والوحيد في العالم العربي سميت قاعة باسمه، لماذا؟ أنا أقول إذا ساعدنا الشباب والكتاب إذا كانت هناك واحة أمل لهذا المكان الذي يأتي إليه الناس جميعاً من كل الطوائف وكل الملل فهذا مكان حر فهو وجه من وجوه لبنان النضرة المستقبلية الحديثة، من هذه الناحية سورية سبقت المنطقة بالدراما التلفزيونية والكتابة الدرامية والإخراج والنصوص الدرامية. وأنا أحلل بيني وبين نفسي، نحن هنا لا يعرف البعض (وين الله حاططهون) بعدهم يتساءلون: نحن من؟ سورية ترسخت لديها الحضارة العربية واللغة العربية ويعرفون من هم وبأي مكان جغرافي هم موجودون ويعرفون أصلهم وفصلهم، وكل من تكلم من سورية خلص ترسخت سورية وهي موجودة تعرف تاريخها ودورها (شايفة حالها بحالها) لذلك ترين تباهي سورية بالدراما الخاصة بها وبالمسرح وهم متفوقون جداً. أيضاً بفلسطين، لدي الكثير من المراسلات معهم وأحاول أن أستضيفهم هنا في لبنان، وذلك بأن يذهبوا إلى قبرص ومن هناك إلى مكان آخر حتى يصلوا بالنهاية للبنان، وهي قصة غريبة للعالم العربي، لأنه في فلسطين توجد نهضة مسرحية، فيها شعر، فيها أدب ومسرح وسينما، فهذا شعب أصيل وإن لم يكن أصيلاً فلماذا تحاربنا الرقابة والوزارات لا تساعدنا وكأن لبنان سهل من العليق؟ ومن وقت لآخر ترين وردة حمراء وصفراء من أين ينبت هذا الورد؟ لا تعلمين، مازال يوجد عند الشباب أمل بالإبداع، ولكن لا يوجد أمل أبداً بالسياسة، ولا يوجد مبدع واحد، الكل فاشلون'.
* طالما اقتربنا من الإبداع، تخرج من لبنان الكثير من المبدعين من شعراء وأدباء وأنت من جيل الرواد، هل يوجد تواصل بينك وبين المبدعين الشباب والرواد؟
* 'طبعاً هناك تواصل بيني وبين الكتاب والشعراء، نحن نتواصل مع بعض كأصدقاء ويأتون لمسرحي فقد حضر أدونيس مثلاً للمسرح ودائماً أقابله في باريس عندما أكون هناك، وكذلك عند حضوري للمهرجانات أراه، وكذلك الشعراء اللبنانيون أقابلهم فقد عملنا احتفالا لايتيل عدنان كان عباس بيضون والشاعرة العراقية مي مظفر، إن العراقيين والسوريين واللبنانيين كلهم أراهم عندما يأتون إلى بيروت، نتواصل وعندما نكون بمهرجانات نتواصل، هكذا أضمن أن التواصل موجود. أما الذي ليس موجودا وحدة جسد للمثقفين والتي كانت موجودة في القديم. عندما قتل رفيق الحريري، بصراحة انقسم المثقفون، بدل من أن يبقوا على دراية وعلى وعي قاموا بالانخراط بالسياسة وأخذوا خطوطا مختلفة وابتعدوا عن بعضهم. الآن أصبح كل منهم مرتبطا بشكل أو بآخر بأمور أخرى، أصبح المثقف يجلس في منزله لوحده منزويا، لم تعد هناك رابطة تجمع الناس جميعهم مع بعض'.
* غياب النص المسرحي، لماذا تراجع الإبداع وكيف نعيده؟ وهل في الأفق من بشارة بأن يكون لدينا مثل سعد لله ونوس في العالم العربي؟
* 'أساساً لا يوجد نص، الفن المسرحي هو فن جديد في بلادنا، بدأ مع النقاش الذي أخذ موليير والمسرح الأجنبي واقتبسه ولبننه. وهناك، أبو خليل القباني الذي كان معاكساً للنقاش حيث أخذ التراث السوري وعمل، من النصوص التي تقرأ، عرضا من الرقص والغناء فكان فرجة. ثم جاء الأديب الذي كتب أدبا مسرحيا وليس مسرحا، فالمسرح فن معقد وفن يريد العشرات من السنين والعلم والدراية حتى يستطيع أن يكتب مسرحا، هذا بنظري وبكل تواضع. أكيد، هناك أشخاص في مصر قد كتبوا مسرحا، ولكن لم يبقَ، كان مثل خبز يومي للمسرح، كتبوا عن الثورة وعن الأشياء الحديثة أيام عبد الناصر، هذا الجيل مهم جداً فقد استخدموا المسرح كما يجب أن يستخدم. لكن المسرح الكبير هو الذي يستطيع أن يكون خبزا يوميا ساخنا، ويمكن أن نُورِّث هذا النص للأجيال القادمة، لكن لا يوجد. سعد الله ونوس هو بنظري فلتة، عندما تقرأين نصه تتعجبين لأن الفن المسرحي ليس مثل الشعر يقرأ الشخص بصوته الوحيد ويجزئه لعدة أصوات، هو دراسة عميقة للمجتمع والسياسة والنفسية الموجودة في وقت ما، في ظرف ما، في مأساة ما، مثل طقوس الإشارات والتحولات وما فيها من أحداث أخذها سعد الله ونوس عن هجوم التتار لبلاد الشام ودخولهم من شمال حلب، لقد أخذ واقعة تاريخية درسها ومن خلالها أعطى نقدا لاذعا للمثقف العربي الذي يتعامل مع التتار ومع العدو ويتأقلم مع أي كان. كلا، المثقف رجل مرتبط بتاريخ وجغرافيا، المثقف لا يستطيع أن يرتبط بأي قوة خارجية تأتي وتحتل البلد، فسعد الله ونوس من القلائل الذين كتبوا مسرحا عالي المستوى. في مصر كتبوا مسرحا، لكن تقرأينه الآن تجدين أنه قد خسر رونقه، كان آنيا جداً'.

رقص المخرجين على الحبال

* تعاملت مع مخرجين كثر، من الذي كنت تعتبرينه هو المخرج بحق؟ وكيف ترين الإخراج الدرامي الحالي في التلفاز والذي نجده غازيا للشاشات؟ هل برأيك له مستقبل أم أنه طارئ وغير مدروس؟
* 'لأني مخرجة وبدأت كمخرجة وممثلة لم أتعامل بشكل كبير مع مخرجين آخرين، لأني كنت أنا أُفبرك العمل وأظهره على الخشبة، فقد كنا مجموعة من الأشخاص نعمل مع بعض. شاهدت أعمالا لمخرجين عرب في بعض الأوقات، كان هناك مخرجون مبدعون جداً. هناك سبب أسأل عنه، لم أعد أُشاهد إخراجا أستطيع أن أقول عنه: إنني لا أستطيع أن أنسى هذا الإخراج أو هذا المخرج. من قبل، كان هناك مثل الطيب الصديقي من تونس، وفي سورية على نطاق التلفاز هناك هيثم حقي وحاتم علي وغيرهما، وكل واحد منهم لديه أسلوب (ستايل)، وأكيد وجودنا كعرب يحد من إبداعهم، فهم يبيعون للسعودية وللإمارات وغيرهما، ولكل واحدة شروطها ومميزاتها، فهم يقومون بالرقص على الحبال كي يستطيعوا أن يعملوا مسلسلهم، ليس لديهم حرية مطلقة لا بالنص ولا في الإخراج، لذلك يتأثر الإخراج كثيراً في المسرح وفي التلفاز وفي السينما أيضاً'.
* التغيرات التي تطرأ على المجتمع والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية تلعب دورا رئيسيا في بلورة أفكار جديدة وتكوين أشكال جديدة للإبداع الإنساني في جميع الفنون، لماذا تراجعت هذه المؤثرات، سواءً في مجال الفكر أو الأخلاقيات أو العلم؟
* 'لقد تراجع فكر الإنسان وقيمه في بلادنا. عندما كنا صغارا كان لدينا إيمان بأننا نستطيع أن نغير، وكنا مؤمنين بإنسان جديد، مؤمنين بإنسان غير طائفي، كنا نؤمن فعلاً بالتغيير، وهذا الحلم اضمحل شيئاً فشيئاً. ماذا بقي؟ على ماذا سوف نبني قيمنا الفنية والإنسانية؟ الجواب في السؤال: إن هذه المتغيرات الاقتصادية والإنسانية والأخلاقية والاجتماعية، هذا الهبوط بالقيم وغياب الحلم، وغياب العقيدة الواضحة غيرت الإبداعات، لم تعد مرتكزة على إنسان ينتج كي يبلور هذه الأفكار. الآن، هناك خبط عشواء، هناك أعمال جيدة حديثة ولكنها فارغة من مضمونها، ليس هناك مضمون. وقد شاهدت عدة مسرحيات للشباب، إما يقومون بأعمال تروق للغرب فيطعنون بذلك قيم المقاومة والممانعة في بلادنا كي يذهبوا للغرب ويقول لهم: هل رأيتم؟ هناك في لبنان وفي سورية أشخاص يقولون رأيهم، فهم يستشرقون بهذه الحالة، هذه البضاعة للترويج للغرب بنظري لها قيمة شكلية. أما الموضوع الذي يكمن في أعماقنا، فقليل من الأشخاص الذين يتناولونه. الرعية الجديدة من الشباب لم يعد لديهم قيم قديمة وليس لديهم قيم جديدة، هم تركوا لنوع من العولمة. هذا هو الشيء الذي وصلنا له، أن لا يكون لدينا زمان أو مكان أو قومية أو أي شيء، نسير بشكل عشوائي ونقلد الغرب، وإن لم نقلدهم نقوم بعمل ينال رضاهم، نقوم بعمل غمزة لهم، ونقول لهم نحن موجودون، هل رأيتم؟ نحن نقدم شيئا، ولا يهمنا الفكر القديم ولا العقائد القديمة، فهم يعتبرون أنها فشلت جميعا، لم يعودوا يشربون من الينابيع النظيفة'.
* برأيك، لماذا لم يعد يكرس الناقد والفنان والكاتب جهودهم لإذكاء الوعي الإنساني والاجتماعي إلى جانب الجائعين المحرومين ويكونون ضد النهب والاستغلال الذي نراه الآن، أي أن يقفوا ضد هذه الطبقة الطفيلية والمرتزقة؟
* 'الناقد ليس له علاقة، فالناقد ينظر من الخارج. أما الأديب والمخرج والفنان أيضاً بطريقة غير واعية، وأحياناً تكون واعية، يقدم هذه البضاعة، هذه المسرحية، هو يقدمها للأغنياء للموسرين وللبرجوازيين وللمثقفين أو المدعين، لذلك يخاف أن يجرح لهم شعورهم أو يخجلهم من المسرح. هذا قد حدث. نحن، وفي المسرحيات التي نقدمها لم تعد تبسط الناس منا، طقوس الإشارات والتحولات مسرح سعد الله ونوس والمسرح الذي قمنا بهِ قبل الحرب، والمسرح الذي نقوم به الآن، هم يأتون لأنهم يريدون مشاهدة جديد نضال، ولكن يخرجون غير راضين لأننا ننقد الأغنياء والتاجر والفاسد، هم لا يحبون هذا النقد فهم مرتبطون بذاك أكثر من ارتباطهم بنا. لو أستطيع لأخذت جميع مسرحياتي إلى القرى والعالم، لكانت ردة الفعل مختلفة حسب الناس والمتلقي، إن كان المتلقي غنيا كيف سيسر أنك تتهمينه، إن كان ميسورا أو فاسداً، لكن نجد كل فاسد يقول إنني أتحدث عن جاره وليس عنه'.
* الثقافة هي التي تبني المستقبل، والثقافة مظلومة جداً لأن الإعلام والدعاية السياسية قد ابتلعتها، كيف نعيد للثقافة وزنها ودورها من وجهة نظرك وأنتِ أمام طغيان الفضائيات؟
* 'الفضائيات رغم وجودها لا تستطيع أن تأكل دور المسرح، فالمسرح هو المكان الوحيد الذي يدخل له الإنسان ويطرح وجوده ويستمع لأفكار جديدة ويتفاعل معها، فنان حي يرزق، هذا هو الفن الوحيد، لا الرسم ولا الكتابة ولا الشعر ولا السينما ولا أي تلفزيون يستطيع أن يسرق من المسرح هذا التألق الإنساني الكبير، فالفنان يكون عارياً على المسرح إلا مما يريد أن يوصله للجمهور. ليست الفضائيات هي التي تؤثر، ليس هناك برنامج وطني في لبنان أو في سورية أو في أي مكان آخر، برنامج يرتكز على تأجيج الإبداع كسلاح للمستقبل'.

'زبالة' باسم الفن

* من الثقافة إلى لغة الصورة وأهمية هذه اللغة، وخاصة عند الشباب. هل الصورة تقدم بشكل صحيح أم أنها أصبحت تشوه في مجتمعاتنا، وأقصد الصورة المرافقة لخبر ما أو صورة فنية يكون هناك هدف سياسي من ورائها لتخريب الذائقة والمجتمع؟
* 'الصورة سلاح مهم جداً، الآن تستعمل بشكل سلبي جداً حيث أنها تؤثر جداً على ذائقة الناس على عيونهم وآذانهم، فهل من المعقول أن يكون هناك آلاف من المطربين لا تذكرين أسماءهم أو أغانيهم؟ هناك شيء قد حصل، قلب مفاهيم الأغنية وهي الصورة. ولكن، نحن يجب أن يكون لدينا صورة مشوهة، ويجب أن يكون هناك إمكانية لدينا على تقديم صورة أُخرى. هناك أشخاص ليس لديهم القدرة على تقديم الفكرة المغايرة، هناك أشخاص يقدمون أعمال 'زبالة' لأن لديهم منتجين يريدون، هكذا يريدون امرأة عارية وأغنية خفيفة، ويرفضون أي شيء عميق لا يريدونه، يرفضون العمق ويرفضون وجود أي شخص لديه تألق فكري وعقائدي، هم لا يريدونه الآن. هناك رواج لكل ما هو سطحي وبراق وينتهي بسرعة مثل الهمبرغر والأكل السريع. ولسوء الحظ، التلفزيونات التي من المفروض أن تكون للدولة مثل تلفزيون لبنان يقدم ثروة لصالح تجار التلفزيونات، فنحن نستطيع أن نقدم في تلفزيون الدولة مسلسلات رائعة ومسرحا رائعا، نقرأ للأطفال، نعمل مثلاً جامعة مفتوحة مع القدس مع بغداد ولا نترك العراقيين بمنأى عن العالم وما يحدث به، كل هذا لا نستطيع أن نقوم به، ولا دولة عندها برنامج تحيي تلفزيونا واحدا يحمل هذا التراث وهذه الأفكار، كلها تجارة بتجارة: السياسة والتجارة والتلفزيون وكل شيء'.
* السيدة نضال الأشقر هذه المرأة الرائدة، ما الذي صنع نضال: البيئة وتربية الأهل أم العلم والعمل والإيمان بسورية الكبرى مع الحزب؟ هذا الفكر الواضح القومي الكبير، في مجتمعاتنا كيف تصنع الظروف امرأة مثل نضال الأشقر في مجالات مختلفة؟
*'هو البيئة والأهل والتربية والتعليم، ولا شك أن تربيتنا كانت واضحة جداً: من نحن وإلى أين ننتمي؟ وأين نذهب؟.. وغير ذلك. نحن لدينا معلم ليس بعده معلم، فالناس وفي بداية الدولة اللبنانية قتلوه رمياً بالرصاص. من يقتل فيلسوفا؟ هي حالة نادرة، قتلوا أنطوان سعادة هذا الفكر النير وهذا المعلم الذي رسخ في ذاتنا القومية، وكل ما نريد أن نتعلمه عن هذه الأمة من تاريخ وجغرافيا ومن أساطير، وكل الغنى الموجود في عالمنا قد قدمه لنا أنطوان سعادة بفكره، وأيضاً لدي والدي ووالدتي بيئتي الأولى، وأيضاً عملت على حالي ولم أترك الآخرين من حولي يؤثرون علي، فالناس تتغير.. وتتغير سياسياً، وأنا مازلت سائرة في طريقي ليس عناداً مني، بل لأني أؤمن بأن هذا الفكر هو الأصح لهذا الوضع في عالمنا، من أجل الوحدة ومن أجل هذا الفكر القومي للإنسان الجديد، من أجل الفصل بين كل ما هو دين وما هو دولة، كل هذه الأمور ساعدتني، أصبحت قوية وأصبحت لدي مناعة لا يستطيع أحد أن يهزها. أنا رأيت الجميع في لبنان من شعراء وكتاب وصحافيين يقعون، وقد تعجبت: كيف من الممكن أن شخصا مثقفا ومبدعا ولا يكون يملك هذه المناعة وهذه الجذور الراسخة في الأرض؟ أظن أن هذا كله قد ساعدني مع التعليم والسفر ومع كل الأشخاص الذين عملت معهم، إن كان في العالم أو في لبنان، كل هؤلاء علموني من أنا، أصبحت أعلم من أنا، ومن خلال نظرتهم لي ولعملي ونظرة الناس لعملي وتقييمهم لي أيضاً أنت باقية، انتماؤك ومقاومتك العميقة أيضاً، لن ينسى أحد هذا، وكل هذا ساعدني أن أكمل هذا الطريق الصعب'.
* سيدة نضال، أنت في المسرح لديك تميز كان يظهر من خلال أزيائك والإكسسوارات التي تنتقينها، سواء أثناء العرض المسرحي أو خلال حياتك العامة، حدثينا عن اهتماماتك بالأزياء والإكسسوارات، وبماذا تنصحين المرأة؟ وهل يكون اهتمامها لذاتها أم للاستعراض؟
* 'أنا في المسرح شيء ثان، ففي المسرح أزياؤنا تكون حسب الشخصية التي نقوم بها. أما بالنسبة للإكسسوار فهو هوايتي، أحب كثيراً الإكسسوارات العربية والألبسة العربية التي أرتديها بشكل حديث، فأرتدي مثلاً بنطالا أو تنوره وفوقها جاكيت من تونس أو المغرب أو الجزائر، كنت أربط رأسي بأربطة خاصة للرأس وهي على الموضة، وما زلت أضعها وأحب الحلي، فأنا كل الحلي التي اختارها من تصميم عزة فهمي الفنانة المصرية التي اشتهرت في العالم. أذهب إلى سوق الحميدية بدمشق وأجد أشياء جميلة، أذهب لعمان أيضاً كذلك وغيرها. لدي ثوب عربي من كل بلد، أحب الأقمشة التراثية مثل البروكار والصايا وهي من الحياكة في العالم العربي، أكثر ما أحب هو العقود والأقراط والخواتم وكنت أرتدي الأساور، فالأساور العربية القديمة التي كانت تتزين بها جداتنا جددها المبدعون الجدد، لدي مجموعات كبيرة أحتفظ بها، وأكيد أستطيع أن أعمل بها معرضا جميلا جداً لأنها خليط من الأشياء العربية والأوروبية وأكثرها من الأربعينات والخمسينات، وأنا أحب هذه الفترة جداً فهي زمن أمهاتنا وجداتنا، زمن المجوهرات الحقيقية'.