بول سالم


يُهدد التوتر الراهن حيال المحكمة الدولية الخاصة بلبنان بدفع البلاد ليس فقط إلى مشاحنات ومواجهات سياسية وأمنية ولكن الى زعزعة ما تبقى من مقومات الدولة واتفاق الطائف.

كان قرار دعم المحكمة موضع إجماع في اجتماعات الحوار الوطني العام 2006، وعنصراً أساسياً في البيانات الوزارية لحكومتين مُتعاقبتين. لكن الآن، ومع احتمال اتهام القرار الظني بعض أعضاء laquo;حزب اللهraquo;، يطالب الحزب وحلفاؤه رئيس الوزراء والحكومة بالإنسحاب من المحكمة ووقف التعاون معها.

laquo;حزب اللهraquo; يشير إلى قضية شهود الزور الذين وجّهوا في البداية شكوك المحكمة نحو سورية، كدليل على أن هذه المحكمة لاهي مهنية ولامُحايدة، وبأنها استُخدمت من قِبَل الولايات المتحدة والغرب وإسرائيل، أولاً للضغط على سورية ثم الآن لعزل laquo;حزب اللهraquo; وتقويض نفوذه. وقد حذّر مسؤولون في laquo;حزب اللهraquo; وفي سورية وحلفاء لها، من أنه ما لم يُغيّر رئيس الحكومة موقفه، فإن المحكمة والقرار الظني سيقودان إلى حرب أهلية.

بيد أن رئيس الوزراء سعد الحريري بقي على موقفه، وأعلن أن المحكمة التي تفصل في مسألة اغتيال والده وشخصيات كثيرة أخرى، ليست موضع تفاوض. كما أنه امتنع عن إقرار تحقيق سريع في شأن شهود الزور .

ويعرب النائب وليد جنبلاط، الحليف السابق للحريري، عن تمنيه laquo;لو أن المحكمة لم تكنraquo;، وهو يحاول، مع الرئيس نبيه بري، أن يجد حلاً توافقياً لهذه المُجابهة. لكن من الصعب ايجاد حل وسط بين قبول أو رفض المحكمة الدولية وقرارها الظني.

لقد بات واضحاً أن القمة السعودية - السورية التي عقدت في بيروت في آخر تموز (يوليو) الماضي، حققت هدوءاً موقتا، لكنها لم تجد حلاً لقضية المحكمة. صحيح أن سورية حافظت على علاقات طيبة مع الرئيس سعد الحريري، لكنها لم تتدخل مباشرة في قضية المحكمة، تاركة laquo;حزب اللهraquo; ليقود الحملة على المحكمة ومُشجِّعة حلفاءها الآخرين في لبنان على رفع وتيرة الضغط. والحال أن سورية تريد من لبنان ان يقطع العلاقات مع المحكمة، لكنها لاتريد تحمّل لائمة فرض هذا الأمر. ويُقال هنا أن العلاقات السورية - السعودية تردّت بعد أن قبلت دمشق بخيار طهران بأن يكون نوري المالكي رئيساً للحكومة العراقية. وهذا التردّي قد يُفسّر جزئياً التصاعد السريع للتوترات في لبنان.

الرئيس الحريري لا يزال على موقفه، على رغم أن استراتيجيته ليست واضحة. بالطبع، لدى حزب الله وحلفائه الموقع الأقوى أمنياً، وما كانت عملية laquo;اقتحامraquo; مطار بيروت لاستقبال اللواء جميل السيّد الا عرضاً واضحاً أمام أخصامه لقدرة الحزب على أن يفعل ما يشاء ومن دون أي سقف او تردد. كما أن للحزب وحلفائه ما يكفي من الوزراء في الحكومة لإسقاطها دستورياً اذا شاءوا.

في المقابل، ليست لدى الحريري قوة أمنية دفاعية، لكن ربما هو يحسب أن laquo;حزب اللهraquo;، كما سورية وإيران، سيترددون أمام خطر نشوب حرب اهلية مذهبية بين السنّة والشيعة في لبنان، أو على الأقل بأن مثل هذه الخطوة من جانب laquo;حزب اللهraquo; ستكون مُكلفة للغاية له وقد تؤثّر بشدة على صورته في العالمين العربي والإسلامي.

وكان الحريري قد نجح مؤخّراً في تحويل قضية المحكمة إلى خط أحمر سنّي في لبنان، وفي دفع العديد من القادة السنّة الآخرين إلى الاندراج في هذا الموقف. وهو يدرك أنه على رغم أن laquo;حزب اللهraquo; وحلفاءه يستطيعون إسقاط الحكومة، إلا أنهم يريدون منه شخصياً التنازل في هذا الشأن، من جهة لأنه نجل رفيق الحريري الراحل، ومن جهة أخرى لأنه لن يكون من السهل اقناع زعيم سنّي آخر بالحلول مكانه على رأس الحكومة ليقوم علناً بمنح laquo;حزب اللهraquo; ما يريد في هذه القضية الفائقة الحساسية في العلاقات السنية - الشيعية.

وقد يلزم laquo;حزب اللهraquo; الهدوء إلى ما بعد زيارة الرئيس الإيراني أحمدي نجاد للبنان في الفترة بين 13 و15 تشرين الأول (أكتوبر) المقبل، وهي الزيارة التي سترفع وتيرة التوتر مع إسرائيل والغرب، ومع السعودية ومصر ودول عربية أخرى. وفي أي حال، فالتصعيد الداخلي سيبدأ على الأرجح بعد انتهاء هذه الزيارة، وستتوافر لدى laquo;حزب اللهraquo; بالتأكيد مروحة واسعة من الخيارات السياسية والأمنية التي يمكنه استخدامها ضد الحريري. لكن، إذا رفض هذا الأخير الرضوخ، حتى ولو حوصر عسكرياً وسياسياً، فإن البلاد ستدخل مرحلة طويلة من الشلل والتوترات شبيهة بتلك التي حدثت بين أواخر 2006 وأوائل 2008، ولكن بحدة أكبر. فهذه المرة، لن تكون المجابهة سهلة الحل عبر اتفاقية شبيهة باتفاق الدوحة الذي نظّم أمراً واقعاً، بل قد تتضمن انهياراً أوسع لمقومات الدولة ولأجواء الإجماع على اتفاق الطائف.

ان مستوى الانقسام في لبنان وصل الى ابعد الحدود حيث يطال مفهوم الدولة، ومبدأ السيادة، وموقع الدستور والمؤسسات الدستورية، والهوية الوطنية، ووحدة الشعب، وصيغة الحكم وتقاسم السلطة، والسياسات الخارجية والأمنية، وغيرها من القضايا الجوهرية. وإذا طال أمد المواجهة، فقد تجر البلاد الى أزمة سياسية مفتوحة تتعدى قضية المحكمة والحكومة وتشبه مرحلة النصف الثاني من عقد الثمانينات. وفي خواتيم أزمة طويلة كهذه، قد يُصر laquo;حزب اللهraquo; على إعادة النظر في بعض مقومات اتفاق الطائف، ومنها صيغة تقاسم السلطة في البلاد.

والواقع أن laquo;حزب اللهraquo; في وضع مشدود للغاية، فهو قد يُواجه قرارات ظنية دولية، وحرباً مُحتملة مع إسرائيل، أو عزلة إذا ما أحرزت مفاوضات السلام الفلسطينية - الإسرائيلية أو السورية - الإسرائيلية تقدماً. وفي المقابل، يتمتع الحزب بهيمنة تاريخية وكاسحة في لبنان، وهو يرى كيف شرّعت الطائفة الشيعية الشقيقة في العراق دورها القوي هُناك. وعلى رغم أن laquo;حزب اللهraquo; تعايش في السابق مع الأمر الواقع وصيغة الطائف، مُفضّلاً التركيز على قضايا الأمن والمقاومة، إلا أنه قد يختار، في ضوء المأزق والتحديات الحادة التي يُواجهها، وفي معترك أزمة مفتوحة الأمد والأفق، أن يستخدم قوته الكاسحة لإعادة فتح ملف الطائف والمطالبة بالدور المركزي لطائفته في الحكم والحكومة.

بالطبع، لاشيء مُحتّماً في هذا السيناريو، كما لن تكون الأمور سهلة إذا ما سارت في هذا الاتجاه. لكن مع ذلك، ولأنه لا يبدو أن ثمة حلاً وسطاً للنزاع حول المحكمة، ولأن هذا النزاع يلامس قضايا وجودية وحساسة جداً لدى كلٍ من الطائفتين السنّية والشيعية في لبنان، فإن المحكمة قد تُسفر ليس فقط عن أزمة سياسية وأمنية، بل عن أزمة دولة ونظام.

ربما لا يزال ثمة وقت لتجنّب التدهور السريع. فجنبلاط يحض رئيس الحكومة على التجاوب مع طلبات laquo;حزب اللهraquo; لإجراء تحقيق سريع حول قضية شهود الزور. ورئيس الحكومة لمح من قبل إلى أنه حتى ولو اتهمت المحكمة أعضاء في laquo;حزب اللهraquo;، فإنه مستعد لتبرئة الحزب وقيادته وتجاوز هذه المسألة. قد يكون في المستطاع العثور على حل وسط على أساس هذه المواقف. لكن، وكما تبدو الأمور اليوم، فإن البلاد مُتّجهة إلى مجابهة مديدة قد تتخطى نتائجها قضية المحكمة ومصير الحكومة الحالية.