مأمون فندي

أكتب من أقصى جنوب مصر، وأقرأ تقريبا كل الصحف المصرية، وأشاهد معظم الفضائيات باحثا عن كلام ذي معنى حول حادثة الإسكندرية التي راح ضحيتها أكثر من عشرين مواطنا مصريا، إضافة إلى أكثر من سبعين جريحا، كلهم من المسيحيين المصريين الأقباط. وبعد رحلة شقاء لا أتمناها لعدو أو حبيب من الاستماع لكلام فارغ قالته الفضائيات وكتبته الصحف، تكشّف لي أن كارثة مصر الكبرى ليست الإرهاب، وإنما الكارثة الحقيقية في مصر، هي كارثة ثقافية في المقام الأول. فأفضل ما هللت له الصحف في مصر هي مبادرة شيخ الأزهر المعروفة بـlaquo;بيت العائلة المصريةraquo;، التي أدخلت البلد في حوار العائلات بدلا من الحديث عن دولة لها قيمة، وكأن الدولة كمفهوم حديث قد ماتت في مصر، وأصبحنا نتحدث عن بيوت وعائلات.
هذا النوع من اللغط الذي لا يوحي بأن هناك دولة قديمة في مصر، بل يرسم صورة مصر وكأنها بلد لمجموعة من القبائل والبدو الرحل. الكارثة ليست في النية التي تقف خلف المبادرة، فأنا أعرف شيخ الأزهر وأقدره، ولا أشك أبدا في نياته الطيبة، ولكن ما هكذا تدار الأزمات السياسية للدول بلغة البيوت والعائلات. هذا مجرد نموذج لسطحية التفكير في أزمة سياسية حقيقية.
أما النموذج الثاني فهو الحديث المصري الممل عن عناق الهلال والصليب، وقد كتبت منذ عام يوم أحداث نجع حمادي، ما قلت عنه يومها laquo;ضد الهلال والصليبraquo;، وكنت وللآن ضد فكرة الهلال والصليب، لأن في هذا الشعار تديينا للحوار الوطني. فبدلا من أن يتحدث المصريون بمسؤولية عن المساواة في المواطنة، تحدثوا بلغة دينية طائفية، تقف خلفها النيات الحسنة، كما يقف خلفها غباء سياسي وثقافي منقطع النظير. إن الحديث المصري عن عناق الهلال والصليب يصب في نهاية الأمر في مفهوم الدولة الدينية وتديين الوطن بدلا من تمدنه أو مدانته، ويصب في خلق مجتمع تسوده الطوائف والملل والنحل بدلا من المواطنة. ورمز المرحلة كان ولا يزال هو الهلال والصليب، ورمزا مرشحي الحزب الوطني في الانتخابات البرلمانية في كل انتخابات هما الهلال والجمل، ولا أدري ما هي حكاية الهلال والصليب والجمل في الثقافة المصرية؟
أما النموذج الثالث، فهو الحديث الذي يبدو كالعهن المنفوش، تسويد صفحات في الصحف وتدبيج مقالات تقرأها من أولها إلى آخرها ولا تجد فيها شيئين سوى أن مصر مستهدفة، وأن هذا عمل خارجي، ولا يمت لطبيعة المصريين بصلة، تقرأ لمن تعلم في الغرب فتجده يشبه من تعلم في الشرق، وتقرأ للمفكر فلا تجد اختلافا بين ما توصل إليه من نتائج وبين أغنية شعبان عبد الرحيم الأخيرة. هذا أيضا ما توصل إليه كتاب الأعمدة، إعادة صياغة لأغاني شعبان، الفارق فقط في المقدمة التي تشير إلى أحداث الفتنة الطائفية من الزاوية الحمراء في السبعينات، إلى أحداث قنا وأسيوط وسوهاج والإسكندرية في السنوات الأخيرة، وبعد عبارات تاريخ التعايش والتسامح بين المسلمين والأقباط في مصر، لا تجد سوى أغنية شعبان، مرة بلغة أهل الزمالك الراقية، ومرة بلغة إمبابة، ومرة بلغة الغرب وأخرى بلغة الشرق، لا تشخيص جادا، ولا اقتراح، ولا مسؤولية في القول، فقط عهن منفوش على الشاشات وعلى صفحات الصحف.
حالة من الخبل الثقافي سادت مصر في السنوات الماضية، يخاف الكثيرون أن يوجهوا إليها إصبع الاتهام، وهي الأساس في خلق مناخ ثقافي أفرز حالة من العنف على الأرض، وحديثا تبريريا كاذبا على صفحات الجرائد، وعلى الشاشات. الشيء الوحيد الذي بدا مسؤولا في كل هذا المشهد هو ظهور الرئيس مبارك متحدثا بجدية ومنبها لخطورة ما حدث. ومع ذلك، ولكي يهدأ الغضب، لا بد من قرارات حاسمة تتبع قول الرئيس، شيء أشبه بما قام به الرئيس يوم مذبحة الأقصر في 1997، يومها أقال الرئيس وزير الداخلية في لحظتها وتركه في الأقصر ولم يعد به إلى القاهرة في الطائرة الرئاسية. أقل ما يجب فعله اليوم، هو محاسبة محافظ الإسكندرية وطاقم الأمن بها. ودون قرارات جادة تهدئ النفوس، سيبقى المشهد محتقنا، مهما كانت فصاحة المتكلمين، وبلاغة الكتاب، وبعد كل هذا، لا بد من مواجهة جادة لحالة الانحطاط الثقافي التي تتسيد المشهد المصري الآن.