منـح الصـلح

سقى الله تلك الأيام التي كان فيها حديث الوحدة العربية لا ينقطع عن الألسنة والأقلام وكأنها أمنية كل عربي وأمل الشعوب والقادة في مشارق الدنيا العربية ومغاربها، والحديث عنها لا ينقطع ويتبارى فيه التبسيط والتنظير حول كيفية تحقيق الحلم الوحدوي والحلم مستعصى باستمرار الى أن تضج الاذاعات بأن الرئيس المصري جمال عبد الناصر والسوري شكري القوتلي أعلنا قيام الوحدة السورية المصرية.

ليست الدعوة إلى الوحدة العربية الشاملة أنشودة مرحلة مضت ولم تعد لها وظيفة تخدم الحاضر والمستقبل، بل هي ثقافة ذات ضرورة للأمة وكل أقطارها... وكل ضمور لثقافة الوحدة العربية سيضرب الأقطار والنخب والشعوب في مشارق الأرض العربية ومغاربها

صحيح أن حديث الوحدة غلب عليه الطابع الرومانسي في معظم الأحيان ولم يتحول إلى واقع إلا في تلك المرة الواحدة المعروفة، الا أن مجرّد الحديث الدائم عن الوحدة قبل وبعد قيامها ظل ينطوي على إيجابية كبرى؛ هي تذكير الشعوب والنخب العربية بأنهم أمة واحدة ولو من دون مؤسسات راسخة. فرغم فاجعة الانفصال، لعبت ثقافة الوحدة قبل وبعد وخلال مدة قيام الوحدة السورية المصرية دوراً في تأكيد وتعميق النزوع العربي الى التضامن والوحدة، بالاضافة الى جهات عديدة من الوطن العربي الكبير تلقت رسالة تأكيد أن النزوع الى الوحدة والمؤشرات الواقعية خلقا حالة إيجابية في ثقافة كل عربي ويجب أن تستمر وتلقى الرعاية والدعم من كل غيور على مستقبل الأمة.

ليست الدعوة إلى الوحدة العربية الشاملة أنشودة مرحلة مضت ولم تعد لها وظيفة تخدم الحاضر والمستقبل بل هي ثقافة ذات ضرورة للأمة وكل أقطارها، كانت لها ضرورة في الماضي وهي ضرورية للمستقبل العربي، وكل ضمور لثقافة الوحدة العربية وأي تراجع فيها يضرب الأقطار والنخب والشعوب في مشارق الأرض العربية ومغاربها.

ليست ثقافة الوحدة المصرية - السورية غولاً يخطط لاغتيال الأقطار، بل هي العكس تماماً دعامة للتماسك داخل كل قطر وبين أقطار الأمة.

لقد نجح أعداء العرب الى حد ما في تزهيد قطاعات واسعة من أبناء الأمة بالنهج الوحدوي العربي بين الأقطار وداخل الأقطار، ولكن وعياً نامياً عند متنوري الأمة يبشر ببروز ونمو ذلك العقل السياسي المطلوب أكثر فأكثر لضمان مستقبل الأمة والذي يدرك جيداً أن نهج الوحدة داخل الأقطار وبين الأقطار وجهان لقضية واحدة فالعروبة وحدها الطامحة الى جمع كل الأقطار العربية على طريق الوحدة هي وحدها المؤهلة الى جمع العرب داخل قطر.

صحيح أن قيادات عربية حملت نظرياً مثل هذا المنطق ولم تفلح، ولكن كل ما جرى بعد ذلك ظل يؤكد رغم كل شيء أن منطق الوحدة عندنا إما أن يكون في كل مكان أي داخل الأقطار وبين الأقطار أو يظل عاجزاً عن الإنجاز في الحالتين معاً.

هناك اعتبارات ومقاييس ونقاط قوة معنوية ومادية تؤهل العرب الى أن يطمحوا لأمتهم ودولهم ورجالاتهم بمثل هذا الدور فلو رجعنا الى كتابات وأقوال الكثير من قادة العالم في الغرب والشرق لوجدنا العديد منهم يرى في وجود عرب بأدوار قيادية في مسيرة العالم عنصراً إيجابياً يعود على الجميع بالخير. ويمكن ايراد قوائم طويلة بأسماء عرب مميزين أعطوا المؤسسات الدولية منذ زمن أو ذاك زخماً ورؤى وفعالية. وفي كل قطر عربي برز من أبنائه من عمل في المؤسسات الدولية، بمستوياتها المختلفة، وكان له من التميز في تأدية مهمته ما جعله خلال سنوات عديدة محط أنظار بل ما جلب للأمة التي هو منها والقطر الذي هو فيه أعظم فخار. وليس المصريون وحدهم ولا اللبنانيون ولا السعوديون ولا العراقيون ولا السوريون هم من برهن واحدهم دون الآخر عن كفاءة أفادت منها المؤسسات العالمية، بل إن هناك غير هؤلاء أيضاً من كان اسمه في الأوساط الدولية واستمر موضع فخار للانسان العربي كانسان وللديار التي ولد فيها ونشأ وترعرع.

كان للتعددية العربية، فضل في إنتاج عرب ناجحين في مهماتهم الدولية من مختلف الأقطار، وقد تكاثر عددهم مع الأيام وما زال يتكاثر ونادرة هي الأقطار العربية التي لم تقدم للمؤسسات الدولية من نُظر إليه بهذا التقدير والاحترام.

ويكفي أن يستعرض الانسان الأسماء العربية التي برزت في المحافل الدولية ليجد أنه ما من بلد عربي تقريباً إلا وبرز منه غير واحد لائق بتمثيله هذا القطر العربي أو ذاك في المحافل الدولية على أحسن ما يكون التمثيل. ومما يذكر في هذا السياق نوعية التمثيل الفلسطيني الفذ في المحافل الدولية اذ كان مندوبو فلسطين بنوعيتهم داحضين بشكل فاضح للمدعيات الاسرائيلية القائلة بأن اليهود وحدهم أصحاب الثقافة والقدرة على البنيان والتعمير. كان الصهاينة حرصاء على الزعم ان ليس بين العرب الفلسطينيين من يتكلم الانكليزية بشكل مقبول مستنتجين من ذلك عدم الأهلية للسيادة الوطنية. وإذ بالمفاجأة تأتي صاعقة في أحد الاجتماعات اذ يتوالى على الكلام باسم فلسطين ثلاثة موفدين هم قمم في مضمون الكلام ونوعية الأداء بالانكليزية، يوسف الصايغ والثاني فايز الصايغ والثالث أنيس الصايغ، ثلاثة إخوة فلسطينيين وجدوا هناك بتدبير منهم وغيرة مشتركة على القضية الواحدة، اضطر أولهم يوسف بالتوقف عن الكلام بسبب مرضه بعدما كان حلق في مادة كلامه عن القضية الفلسطينية وفي لغته، واستبشر الصهاينة فإذا بالأخ فايز يأتي محل سابقه يوسف، وتثور ثائرة الاسرائيليين ويبتدعون ذريعة لوقف فايز عن الكلام وينحاز لهم مدير الجلسة الأولى فينسحب فايز ويحل محله أنيس، ليتبين أن الثلاثة فرسان متساوون بل كل واحد منهم متفوق على من سبقه.

كان الجمهور الأميركي قد أتى ليشهد مشهد التفوق اليهودي على الفلسطيني، فإذا هو يشهد تفوق كل أخ من الاخوة الفلسطينيين الثلاثة واحدهم بعد الآخر في التبحر بالقضية الفلسطينية والتمكن من البيان والتبيين باللغة الانكليزية.

كانت أوساط غربية مختلفة وخصوصاً أميركية تتحدث في تلك الأيام عما كانت تسميه الأهلية للاستقلال، فلا حق لغير ذي أهلية للاستقلال بأن يطالب به ومعيار الاستحقاق هو إتقان اللغات الأوروبية والأميركية الشمالية خصوصاً. ولكن جودة الأداء باللغة الانكليزية عند هؤلاء الثلاثة الفلسطينيين من آل الصايغ كانت من الوضوح بحيث تستحيل المكابرة في الإقرار بها ولو جاء ذلك على حساب الدعاية الاسرائيلية المتغلغلة عند الأميركيين حول التخلف العربي.

نقول ذلك لنلفت الأذهان الى ان الأمة العربية ينبغي أن تستخدم كل طاقاتها وكل أطياف تعددها البشري والثقافي والاجتماعي لدحض ما تحاول الصهيونية والدوائر الاستعمارية زرعه في نفوس الشعوب الأوروبية والأميركية ضد العرب كأمة، فالصور عن العرب في الولايات المتحدة وأوروبا وربما في غيرهما أيضاً هي أننا نريد الخصومة مع الغرب ولكن قلما نفكر برفع القدرة التنافسية معه. ولكن هذا إن صح في الماضي فهو ليس صحيحاً في الحاضر، اذ إن الفكر التنافسي مع الآخر الدولي يتقدم في المجتمعات العربية على فكر المخاصمة والعداء.

منذ أيام الدولة العثمانية ومصطلح الوحدة العربية يتقدم بالرواج والتأثير على كل تعبير سياسي آخر فرغم أن الوحدة لم تكن تحمل دائماً عند مطلقيها وسامعيها معنى محدداً هو نفسه عند الجميع، إلا أن كثرة تردد الكلمة كان ينم عن مستوى متقدم بلغة الوعي القومي. ففي حين اتجه مصطفى كمال في تركيا الى إقامة جمهورية علمانية مدنية بحجم متقلص عما كانت عليه الطموحات العثمانية للخليفة العثماني، اتجه العرب الى استلهام تاريخهم وجغرافيتهم بالاصطفاف تحت راية الانبعاث العربي القومي باللغة العربية.