أحمد يوسف أحمد

تداعى السؤال عن مصير العروبة إلى ذهني وأنا أشاهد جنوب السودان عبر السنوات والشهور والأيام ينسلخ تدريجاً عن الجسد السوداني الكبير، ومن ثم عن الجسد العربي. صحيح أن أهل الجنوب لا يمكن احتسابهم على العرب ثقافيّاً أو سياسيّاً، ولكن انفصالهم يعني أن العروبة قد أخفقت في احتضانهم ومن ثم في الحفاظ على قيمة التنوع، وهذه علامة غير صحية بالتأكيد، وخاصة أن أمام العروبة استحقاقات أخرى كما في إقليم كردستان العراق أو بعض مقومات الكيان اللبناني، وهذا أخطر. ولكن المشكلة الكبرى تكمن الآن فيما يبدو من أن العروبة تفشل في لملمة مكوناتها الذاتية، وتكفي نظرة إلى الوضع الراهن فيما يسمى بأراضي الحكم الذاتي الفلسطيني، وما يشي به من انقسام مخجل بين quot;حماسquot; في غزة وquot;فتحquot; في الضفة الغربية، أو إلى التحديات التي تواجهها الدولة اليمنية الموحدة وفي مقدمتها تحدي مطالبة quot;الحراك الجنوبيquot; بالانفصال، وغير ذلك كثير.

وفي ظل هذه الهواجس وجدت نفسي منذ أيام جزءاً من حوار حول مصير العروبة. وكان قطب الحوار من ناحيته مصرّاً على أنه قد آن أوان إلقاء العروبة في سلة مهملات التاريخ بعد أن أخفقت في إنجاز أي شيء، وكنت أنا من ناحيتي أحاول أن أحاوره بالحجة والمنطق. قلت له أولاً إن علينا أن نفرق بين العروبة كرابطة موضوعية شئنا أم أبينا وبينها كحالة لتوجهات الجماهير والنخب والنظم العربية. أما العروبة كرابطة موضوعية فلا هو ولا أي كائن من كان يستطيع أن يلقي بها خارج التاريخ، لأنها تقوم على مقومات لا يمكن تقويضها، فهل يمكن تقويض لغة القرآن الكريم التي تجمع العرب؟ وهل يمكن تصفية التراث الثقافي المشترك للعرب استناداً إلى تحدثهم بلسان واحد؟ وهل يمكن محو تاريخهم المشترك وآخره معارك التحرر من الاستعمار التي خاضوها سويّاً؟ وهل يمكن فصم عرى الرقعة الجغرافية المتصلة التي يعيشون عليها؟ وأما العروبة كحالة فهي تتأثر بالواقع دون شك، ولذلك يمكن في مرحلة ما أن يكون الشعور العربي ضعيفاً لاعتبارات سنأتي على ذكرها.

أما عن فشل العروبة في تحقيق أي إنجاز فقد ذكَّرت محدثي بأزمة المطالبة العراقية بالكويت قبل استقلالها في 1961، وكيف أن النظام العربي ممثلاً في مجلس وزراء خارجية الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية حفاظاً على قيمه المشتركة، وعلى رأسها عدم المساس بالسلامة الإقليمية لأي عضو فيه، قد اتخذ من القرارات ما كفل حماية الكويت بآلية عسكرية عربية، دون أن تُراق قطرة دم واحدة في ذلك الوقت، فيما أخفق مجلس الأمن -بسبب الاستقطاب الدولي الحاد- في أن يحدث أي تقدم في الأزمة. وذكَّرته كذلك كيف كان التضامن العربي في قمة الخرطوم التي أعقبت الهزيمة أمام العدوان الإسرائيلي في 1967 هو الأساس الذي انطلق منه الاستعداد لإزالة آثار العدوان، مع أن الدول العربية المتضامنة مع مصر وسوريا والأردن ومنظمة التحرير كان بينها وبين مصر حتى وقوع العدوان ما صنع الحداد. وذكَّرته ثالثاً بحرب أكتوبر التي كانت بحق سيمفونية حقيقية يعود الفضل فيها إلى العروبة، فقد خاضت مصر وسوريا الحرب بخطة عسكرية مشتركة للمرة الأولى في تاريخ المواجهات العسكرية مع إسرائيل، وكانت لعديد من الدول العربية قوات عسكرية برّاً وجوّاً تحارب على الجبهة المصرية أو في العمق السوري، ناهيك عن سلاح النفط واستخدامه في الحرب لعقاب إسرائيل وأنصارها. ولم يكن غريباً والأمر كذلك أن يحقق العرب في تلك الحرب أكبر إنجاز لهم في مواجهة إسرائيل على مدار السنوات التي تلت نشأتها في 1948.

إن العروبة ليست عقيمة إذن، ولكن ثمة عوامل سياسية رسمية أفسدت مسيرتها، ويكفي أن نتذكر تطورين مهمين ساعدا في تدهور العروبة كـquot;حالةquot; بعد أكتوبر 1973. أما التطور الأول فهو مبادرة السادات بسياسته الجديدة تجاه الصراع مع إسرائيل اعتباراً من زيارته الشهيرة للقدس في 1977 وانتهاءً بتوقيع معاهدة السلام مع إسرائيل في 1979، فقد جمعت هذه السياسة كافة العرب ضده تقريباً، وأفضت إلى قطع الغالبية العظمى من الدول العربية علاقاتها الدبلوماسية مع مصر، وتعليق عضويتها في جامعة الدول العربية وكافة منظماتها، ونقل مقر الجامعة من ثم إلى خارجها. صحيح أن الخلاف بدا وكأنه سياسي رسمي، لكن الملاسنات الحادة التي وقعت بين السادات وعديد من الحكام العرب آنذاك طالت العروبة من جانب السادات، والشعب المصري من جانب الدوائر المحيطة بهؤلاء الحكام، وأفضى هذا إلى نوع من الكفر بالعروبة لدى قطاعات من النخب والجماهير العربية عامة. وأما التطور الثاني فهو غزو العراق الكويت في 1990، وهو الغزو الذي ضرب عرض الحائط بالقيم الأساسية للنظام العربي ومعادلاته في الأمن القومي، ناهيك عن انقسام العرب حوله كما لم ينقسموا من قبل، وانتهائه باستدعاء أكبر حشد لقوات أجنبية في المنطقة -منذ الحرب العالمية الثانية- لتحرير الكويت، بما يعني أن معادلات الأمن العربي لم تعد بيد العرب أساساً. ولاشك أن قطاعات من النخب والجماهير سواء في الدول العربية التي أيدت الكويت في هذه المحنة أو التي لم تأبه بها ولو على نحو غير مباشر قد اهتز إيمانها بقيمة العروبة بعد هذه الأزمة والحرب التي أفضت إليها، وأحسب أن بعض تداعياتها على الأقل ما زال قائماً حتى الآن.

ولكن الجماهير والنخب العربية أثبتت مع ذلك سلامة حسها القومي غير مرة، فبينما وقف معظم الحكومات العربية وقفات متخاذلة من الغزو الأميركي للعراق في 2003 والعدوان الإسرائيلي على لبنان في 2006 وعلى غزة في 2009/2008، استطاعت الجماهير والنخب العربية أن تتبنى من المواقف في تلك الأحداث الكبرى ما يثبت عروبتها الحقة، فقد فرقت بين سقوط نظام صدام حسين ووقوع العراق تحت براثن الغزو باعتباره مستهدفاً ككيان، وتكرر الأمر نفسه مع العدوان الإسرائيلي على لبنان، وفي العدوان على غزة في 2009/2008.

لا نريد إذن أن نرى الجانب المظلم وحده من الصورة، وكما أن العروبة quot;السياسيةquot; قد تفككت بفعل عوامل رسمية فإنها يمكن أن تعود إلى التماسك بفعل العوامل ذاتها، بفضل تطور ديمقراطي حقيقي يجعلها قادرة على تجاوز خلافاتها وأزماتها كما هو الحال في تجربة الوحدة الأوروبية منذ 1957 وحتى الآن، أو على الأقل بفضل ظهور قائد أو نظام أو مجموعة نظم تدرك قيمة العروبة الحقيقية وتتصرف على هدى منها، وتتبنى مقولات التجديد في الفكر القومي العربي التي باتت تدعو إلى وحدة عربية فيدرالية على أساس ديمقراطي، بحيث تبدأ هذه الوحدة ولو بين دولتين أو أكثر، ويدعو ذلك إلى تنمية قومية شاملة تحقق مصالح كل مواطن عربي، وساعتها سيجد ذلك القائد أو النظام أو مجموعة النظم أن الجماهير العربية التي تبدي قطاعات منها الآن لامبالاة واضحة بالعروبة ستسير في الطريق المرسوم إلى استعادتها، ووضعها في مكانها المستحق على خريطة حاضر الأمة ومستقبلها.