حمد الماجد

رغيف خبز اعتلى عليه الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، إبان ثورة الخبز الجماهيرية منتصف الثمانينات، ليصل إلى قصر الرئاسة التونسية، وبعدها بـ23 عاما عربة خضار لأحد العاطلين قلبها أحد عناصر أمنه فقلبت نظام حكمه ليخرج من ذات القصر، laquo;الديمقراطية.. الحرية.. التعددية.. لا رئيس مدى الحياةraquo;، هي شعارات بن علي وهو يتولى السلطة عام 1987، ونفس الشعارات تمتم بها صوته المضطرب المتوتر وهو يترك السلطة في عام 2011، وذات الشعارات كان الحبيب بورقيبة يطلقها مدوية أمام الجماهير المبتهجة بعد الاستقلال التونسي.

وحتى محمد الغنوشي laquo;القائم بأعمالraquo; الرئاسة استنسخ تلك الشعارات المبشرة بالحريات والديمقراطية في خطابه قبل ثلاثة أيام للأمة التونسية بعد خلع بن علي، وهنا نضع أيدينا على قلوبنا من تكرار السيناريو، نقصد اختطاف الغضبة الجماهيرية وتضحياتها ثم ركوب موجتها وتوجيهها مرة أخرى في دهاليز الاستبداد والفساد السياسي والمالي وحتى الأيديولوجي. نعم، التجارب الثلاثة مختلفة فأبو رقيبة جاء بعد غضبة جماهيرية ضد المستعمر، وبن علي كان منقلبا أبيض ضد رئيسه، ومحمد الغنوشي تسلم زمام السلطة بعد انقلاب جماهيري، لكن الذي يجمع التجارب الثلاث أن زعاماتها من نفس الدائرة الاستبدادية، فبن علي رجل التغيير المزعوم كان رجل أمن شرسا لأبو رقيبة وهراوة قمع بها شعبه، ورجل التغيير الثاني محمد الغنوشي أحد رجالات بن علي الأوفياء، وستظل تونس الخضراء في دوامة الاستبداد والفساد حتى ولو بنسخة منقحة ما لم تتفطن نخب تونس السياسية والفكرية حتى لا تلدغ تونس كلها من جحر الاستبداد والفساد مرة ثالثة.

سقط الثور التونسي والتهمته جموع المظلومين والمكبوتين والمحرومين والجوعى، والثور كما الجمل إذا سقط كثرت سكاكينه، فلن نزاحم أصحاب السكاكين، والعقل والمنطق يفرض أن نتوجه إلى بقية الثيران التي لم تؤكل لنحافظ عليها من الذبح ثم الأكل. الدول العربية على صنفين؛ دول التفتت بنسبة معقولة إلى شعوبها وlaquo;ذوقتهاraquo; شيئا من خيراتها، كما أنها ليست قمعية في التعامل الأمني مع شعوبها وهذه وإن كانت في أمان من السيناريو التونسي إلا أن تفشي فيروسات الفساد الإداري والمالي قد يشكل خطرا مستقبليا عليها، ولهذا يجب عليها المبادرة بتحميل laquo;الهاردويرraquo; ببرامج حماية من هذه الفيروسات لها مهمتان: القضاء على فيروسات الفساد، وثانيا حمايتها من فيروسات مستقبلية. الصنف الثاني دول عربية laquo;استبداديةraquo; تتشابه في كثير من المظاهر مع نظام بن علي، وهذه هي الأكثر فزعا مما جرى في تونس laquo;واللي على راسه بطحاء يحسس عليهاraquo; كما يقول المثل المصري، هذه الدول لن ينفعها تحميل برامج الحماية لأن أصغر فيروس فيها بحجم الفيل، فلا مفر من تغيير laquo;الهاردويرraquo; إن أرادت الاستمرار.

أما الدرس المؤثر في التجربة التونسية فيتلخص في كلمة بليغة جدا تفوه بها بن علي في laquo;خطبة الوداعraquo; هي كلمة laquo;فهمتكمraquo;، كم تثير هذه الكلمة الشفقة والحنق الشديد في آن واحد، ربع قرن من الشكاوى والأوجاع والأنين laquo;ويا دوبهraquo; يفهم؟ لو أنك حاولت لدقائق أن laquo;تفهمraquo; محاورك ما تريده ولم يفهم، أصابك قدر من الإحباط والزمن دقائق سريعة، فكيف بشعب يحاول laquo;تفهيمraquo; رئيسه ولم يرد عليهم بـlaquo;فهمتكمraquo; إلا بعد 23 سنة، المهم في هذه المرحلة أن laquo;يفهمraquo; غيره ويتعظ من الدرس التونسي قبل فوات الأوان.