عزت القمحاوي

هذا يوم للفرح. تونس هي البداية التي لن تعود أوضاع العالم العربي بعدها إلى ما كانت عليه.
أكتب هذه السطور، وأكاد أبكي لأن الثائرين التونسيين لم يعودوا إلى بلادهم مخذولين في حريتهم، وفي كرامتهم، وألا تسرق نتائج الثورة الشعبية الأولى الناجحة في تاريخ العرب، وأن تمتد الانتفاضة لتشمل كل الشعوب المجوعة المهانة.
هل ثمة فرق بين الخبز والكرامة؟
الآن لا فرق. لا يبدو الفرق واضحا إلا عند مستوى محدد من مستويات النهب؛ في حالات السرقة والاختلاس التي يعرف فيها السارق أنه على خطأ ويتلفت حوله حتى لا يراه أحد. ذلك المستوى من الفساد قد يضيق على الناس خبزهم، ولن نعدم وجوده حتى في أكثر الأنظمة السياسية شفافية. وفي مصر كان موجودا طوال الحقبة الساداتية وبداية عهد مبارك.
النهب الآخر؛ النهب الجديد هو الذي أزال الحاجز بين الخبز والكرامة، لأنه سرقة'بالإكراه في وضح النهار، بلا أدنى اعتبار لجائع يرى أو يسمع.
الإهانة والمساس بالكرامة في البلدان المختطفة يحدث مرتين: مرة عندما يسمى السرّاق 'رجل أعمال' بدلاً من أن يدان بسرقته، ومرة عندما يطلب منه النظام الإحسان إلى الفقراء، وهو ذات النظام الذي أهداه ممتلكات هؤلاء الفقراء!
مؤسسات مملوكة للشعب تباع الواحدة منها بعشر ثمنها ويتم تسديد الثمن بقرض من بنك حكومي، أي أن العملية برمتها تمثل إهداء للمؤسسة العامة للمحظوظ الذي يشيع عن نفسه أنه واجهة، مجرد واجهة لفرد من العائلة المالكة. الأمر نفسه ينطبق على الأرض الفضاء التي تخصص بأسعار رمزية وبمساحات تكفي لإقامة مدن بكاملها.
يستيقظ أحدهم في الصباح ليجد نفسه مليارديرا حسب مشيئته أو مشيئة القصر، وتتراكم المليارات بشكل يدعو للجنون؛ فليس هناك منطق نفسي أو عقلي في مراكمة كل هذه المسروقات التي تكفي لتأمين أجيال لن تمت بصلة قرابة إلى السارق الأصلي.
هذه الفبركة للثروات السهلة جعلت أحدهم ينفق مليار دولار على امرأة، ما بين تكاليف عشقها وتكاليف قتلها ودية دمها.
اختلط الخبز بالكرامة في ظل فحش اقتصادي اختلط هو الآخر بفحش سياسي، حيث جهز كل رئيس وريثا أو وريثة في غفلة من الزمن ومن الشعب المجوع. والمدهش أن الفحش الأول لا ينسجم في غاياته مع الفحش الثاني.
من يريد أن ينهب عليه أن ينهب فقط، ومن يريد أن يرث عليه أن يحافظ على البلاد؛ فلا أحد يسعده أن يرث خرابة، لكنه السعار أو قلة الخبرة التي جعلتهم يتعاملون مع الأوطان وكأنها شاحنات قطعوا عليها الطريق ويريدون تفريغها بأقصى سرعة ممكنة!
ولهذا فإن ما يجري منطقي ومفهوم. منطقي أن يقوم الشعب المجروح في كرامته وخبزه، لا لوم يمكن توجيهه إلى شعب محكوم بالحديد والنار على سكوته حتى اليوم. ولا مفاجأة في رد الفعل الغربي المراوغ والمنسجم مع قيم العولمة التي خطت لبضائعها طريقا هابطا من الشمال إلى الجنوب. ومثلما تمكنت من إيجاد وكلاء توزيع لماركات الملابس والأحذية الرياضية وجدت في ورثة الثورات وكلاء محليين يكفونهم عناء الاستعمار المباشر.
وعندما وجد الغرب شباب الشاطىء الجنوبي يلقون بأنفسهم في البحر هربا من الأقفاص الوطنية كل ما فعله أنه أبرم اتفاقات مع الوكلاء لتأمين الشواطىء، لكي يحتفظوا بدجاجهم في أقفاصهم. لم يقل لهم الغرب حسنوا حياة شعوبكم لتصبح لائقة بالبشر. واليوم يستخدمون أنعم الألفاظ لإدانة الوحشية التي تعامل بها النظام التونسي مع الغاضبين!
الغرب نفسه عندما كانت لديه مصلحة وكان لديه ثأر من الشيوعية فبرك في إعلامه ثورة لم تكن قد قامت بعد في رومانيا ضد شاوشيسكو. كانت مجرد مظاهرة أقل من أول احتجاجات تونس واستطاعت التليفزيونات أن تقنع الرومانيين بأن الثورة نجحت؛ فنزل الشعب إلى الشارع وأصبحت ثورة فعلاً؛ ليحمل التغيير في رومانيا اسم 'الثورة التلفزيونية'.
ولكن هناك فرق بين رومانيا التي تملك حـــــدودا مباشرة مع الغرب وبين الدول العربية المتوسطية التي يفصلها الماء عن أوروبا. ولن يعمل بنفسه على إغلاق وكالاته كنوع من الإحسان إلى شعوب أخرى.
على أية حال، فعلها التونسيون الأحرار من دون تدخل أو دعم من أحد. وللحرية أثمان، وقد دفع التونسيون الثمن، وعلى كل ما'يثيره استشهاد ثائر من حزن، فإن عدد ضحايا ثورة الكرامة التونسية أقل من عدد ضحايا أحدث تصادم مروري بمصر.
العزة لشعب تونس، ولينم أيقونة الثورة محمد بوعزيزي في سلام، فقد كانت لحظة انتحاره، لأن الشعب التونسي أراد اليوم الحياة. ونرجو أن تصبح تونس الخضراء من اليوم اسما على مسمى.