إياد الدليمي

لا يبدو أن الكلمات ستفي حق هذا الشعب البطل، شعب تونس الخضراء، الذي بث الروح من جديد في جسد الأمة الذي ظن الكثيرون أنه لم يعد مريضاً فحسب، بل إنه دجن ومات. ما عادت كل عمليات التنفس الصناعي قادرة على إعادته للحياة، لن تفي الكلمات حق هذا الشاب محمد البوعزيزي، الذي تحول إلى رمز وطني، لن تفي الكلمات لكل أولئك الذين هبوا في مسيرات عفوية، مطالبين بحريتهم، مطالبين بأن يعودوا للحياة بعد أن خنقهم النظام الأمني الاستبدادي لأكثر من عقدين من الزمن، ولكن حسبنا هنا أن نقول إن إرادة التغيير التي أطلق شرارتها الشعب التونسي البطل، ستكون كافية لبث الروح في جسد الأمة.
أيام، لم تكن كبقية الأيام، عاشها التونسيون ومن خلفهم ملايين العيون والقلوب التي كانت ترقبهم عبر شاشات التلفاز، داعية مبتهلة لهؤلاء الفتية الأبطال، كانت أياما أعادت لنا نبض الشارع العربي خلال سنوات استقلاله الأولى، أيام نسيناها، كنا نمر عليها، نقرأها، ربما نشاهد شريطاً فيلمياً لبعضها، كنا نتمناها، حتى عشنا وشاهدنا وسمعنا تلك الهبة الشعبية والانتفاضة لثورة الياسمين التونسية التي انتصرت وانتصر معها كل فقراء العالم العربي، ومظلوموهم.
كانت لحظة فارقة، نحمد الله كثيراً أننا عشنا لحظاتها، لم تكن الساعات تشبه الساعات الرتيبة، التي اعتدنا عليها، كانت العيون تراقب والأيادي والأكف ترتفع لرب السماء أن ينصر هؤلاء الفتية، أخذتنا بعيداً تونس الخضراء، حتى بحمرتها الطاهرة التي روت أرض الزيتون، أخذتنا تونس إلى زمن الشعارات غير المزيفة وزمن البطولات الحقيقية، بعد أن أشبعنا الآخرون شعارات مزيفة وبطولات بين غرف فنادق الخمس نجوم.
ثورة الياسمين نجحت، وأبرز معالم نجاحها ليس هروب الطاغية بن علي وحسب، وإنما تلك الإمارات الخائفة التي بدت على وجوه بعض الزعماء العرب الذين شعروا في لحظة أن بيت الشعر الشهير لأبي القاسم الشابي ما زال ممكن الوقوع، حتى تراخت مفاصلهم، وراحت أجهزتهم الأمنية تعقد الاجتماع تلو الآخر من أجل تلافي أية انتفاضة مشابهة في هذا البلد العربي أو ذاك.
ثورة الياسمين، يجب أن تستمر ليس في تونس، وإنما في العديد من أوطاننا العربية التي يعيش بعضها في ظروف أسوأ بكثير من تلك التي دفعت التونسيين للانتفاضة على حاكمهم الظالم، يجب أن تبقى الجذوة التونسية متقدة في نفوس الشعوب العربية، وأن يتعلموا أن لغة المستحيل بمغادرة هذا الحاكم أو ذاك ما هي إلا وهم زرعه الرؤساء والزعماء، وهم رسخوه عبر عقود من حكمهم المقيت وتحكمهم برقاب البلاد والعباد.
نعم كل شيء ممكن، ممكن أن نخلع الطاغية والديكتاتور، أن نخلع أولئك الذين تزوجوا كرسي الحكم زواجاً كاثوليكياً، أن نقول لهم كفى، لم يعد لكم مكان في بلادنا، ارحلوا فنحن الأجدر ببلادنا من الفاسدين، ممن نهبوا خيرات البلاد.
نجح الشعب التونسي، نجح لأنه آمن بقدرته على التغيير، نجح لأنه يحب الحياة الكريمة، نجح لأنه آمن بقدراته، وآمن بأن التغيير ممكن متى ما آمنت به الشعوب.
ولأولئك الذين يناضلون عبر الشاشات وفي فنادق الدرجة الأولى نقول، لا ثورة من غير دماء، لا ثورة من غير تضحية، لا ثورة من غير النزول إلى الشارع وبين أفراد الشعب، أما بيانات التنديد والاستنكار عن بعد فلقد عفا عليها الزمن، ولا يمكن للتغير أن يحصل إلا بالدماء، ورحم الله الشاعر: وللحرية الحمراء بابٌ بكل يد مضرجة يدق.
تحية لثورة الياسمين، تحية للشاب البوعزيزي، تحية لكل هؤلاء الفقراء الذين قادوا انتفاضة الحرية والتغيير في تونس، ورحم الله شاعر الزيتون أبا القاسم الشابي الذي أطلقها مدوية خلال انتفاضة تونس:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة
فلا بد أن يستجيب القدر