محمد الخليفي

الاستبداد السياسي ظاهرة اجتماعية، قيلت في تفسيرها أقوال كثيرة، من ذلك ما قال به، (إتيان دو لا بويسي)، ونُشِر تحت العنوان التالي: (مقالة العبودية الطوعية): إن ما أثار (لا بوسي) وهو يتأمل هذه الظاهرة، ليس فعل الإخضاع الذي يمارسه الحاكم المستبد بشؤون مواطنيه، بل في فعل الخضوع والانصياع الذي يستجيب به أفراد المجتمع لأوامر الحاكم المستبد.
إن ما أدهش (لا بويسي) هو في قبول العبودية، وليس في فرضها، لذلك اتجه في تفسير ظاهرة الاستبداد بالنظر في سلوك المستبد بهم، أكثر من النظر في فعل المستبد، فتساءل عن السر في خضوع هذا الحشد الكبير من الناس لمستبد طاغية فرد، واستسلامه له وانصياعه لأوامره.
كيف أن عدداً من الناس يخضعون لطاغية واحد؟
هذا هو السؤال الذي يطرحه لا بويسي في وجه قارئه، سؤال يختلط فيه الاستفهام بالاستنكار، ويمتزج فيه ألم الخضوع بدهشة حب الاستطلاع.
إن ما يثير الألم أكثر مما يبعث على الدهشة، هكذا يتحدث لا بويسي، هو أن المستبد laquo;لا يملك من قوة سوى تلك التي يمنحونه إياها (= المستَبدُ بهم)، وما من قدرة لديه على الإضرار بهم إلا بمقدار ما يريدون هم أن يقاسوا. وما كان بوسعه إلحاق أي أذى بهم لولا أنهم يفضلون تقبل كل شيء منه بدلاً من معارضتهraquo;!!
إن المستبد منظور إليه في ذاته، لا يملك من القوة أكثر من تلك التي منحه إياها المستبد بهم، لذلك اتجه (لا بويسي) صوب الخاضعين يخاطبهم: laquo;إن هذا الذي يسيطر عليكم تلك السيطرة كلها ليس له سوى عينين اثنتين، ويدين اثنتين، وجسد واحد، وليس فيه من شيء آخر يزيد عن أدنى رجل .. باستثناء الامتياز الذي تهبونه إياه ليتولى تدميركم، فمن أين جاء بذلك العدد الكبير من الأعين التي يترصدكم بها، ما لم تكونوا أنتم أعطيتموه إياها؟ وأنى له تلك الأيدي كلها فيضربكم بها، ما لم يأخذها منكم؟ ومن أين جاءته الأقدام التي يطأ بها مدنكم، ما لم تكن هي أقدامكم أنتم؟ وكيف يجرؤ على الهجوم عليكم لو لم يكن على وفاق معكم؟ وأي أذى كان بوسعه لو لم تكونوا شركاء للص الذي يسرقكم، ومتواطئين مع المجرم الذي يقتلكم، وخونة حيال أنفسكم؟!!raquo;
المفارقة التي يكشف عنها (لا بويسي) وهو يتأمل هذه الظاهرة، الإخضاع ndash; الخضوع، هي أن الحاكم الطاغية المستبد لا يملك من القوة غير تلك يأخذها من مواطنيه، فهم الجنود الذين يحارب بهم، وهم الحرس الذين يحتمي بهم، وهم الجواسيس الذين يترصد بهم، وهم ... وهم ... وهم الذين يبنون مجده وسؤدده، بنفس الأيدي التي يكرسون بها ذلهم واستعبادهم .
laquo;أيتها الشعوب .. أنتم تتراخون فتدعون الأجمل والأنقى من رزقكم يتخطف من أمامكم، فحقولكم تنهب وتسرق، وبيوتكم تعرى من الأثاث القديم الذي كان لآبائكم. وتعيشون على نحو لا يسعكم معه الزهو بأنكم تمتلكون شيئاً. يبدو أنكم إذا تركت لكم نصف ممتلكاتكم ونصف عائلاتكم، ونصف حياتكم، تعتبرون ذلك سعادة كبرى laquo;!!
لذلك، لأن مصدر قوة المستبد ليست ذاتية، بل مستمدة من الشعب الخاضع للاستبداد، فإن القضاء على المستبد لا يحتاج إلى ثورة تتفجر ولا إلى قوات تحارب، بل هو يحتاج أن يكف الشعب عن أن يكون مستعبداً له!! laquo;ليس المقصود انتزاع أي شيء منه، بل عدم إعطائه أي شيء !! laquo;
laquo; لا تسعوا إلى التخلص منه، بل أعربوا عن الرغبة في ذلك فقط. احزموا أمركم على التخلص نهائياً من الخنوع وها أنتم أحرار. أنا لا أريد منكم الإقدام على دفعه أو زحزحته، وإنما الكف عن دعمه فقط، ولسوف ترونه مثل تمثال عملاق نُزعت قاعدته من تحته، كيف يهوي بتأثير وزنه المتحطم.raquo;