شريف عبدالغني
عندما كانت طائرة الرئيس التونسي laquo;الهاربraquo; من بلده laquo;الفارraquo; من العدالة، زين العابدين بن علي، تجوب السماوات بحثا عن ملجأ يعصمه من الغضب الشعبي، والمصير المحتوم لأمثاله من مصاصي دماء الشعوب وأولهم أستاذه ومثله الأعلى الروماني نيكولاي تشاوسيسكو، استدعت ذاكرتي على الفور مشهدا لم يمر عليه سوى أسابيع. الرئيس البرازيلي السابق لولا دا سيلفا يغادر القصر الرئاسي بعد 8 سنوات فقط قضاها في الحكم أحدث خلالها تحولا في الأوضاع الداخلية لبلده، وصنع لها مكانة عالمية يشهد بها القاصي والداني. خرج laquo;لولاraquo; من السلطة راضيا بما أنجزه، مرضيا عليه من قبل الشارع وبشعبية قياسية وصلت إلى رقم غير مسبوق وهو %90، مغلفة بمطالبات جماهيرية حقيقية أن يعدل الدستور ليضمن الترشح لفترة رئاسية ثالثة. لكن الرجل رفض، ليخلد اسمه في ذاكرة التاريخ، لا أن يذهب إلى مزبلته!
استغربت كثيرا أن يهرب بن علي من شعبه، الذي سبق ونظم laquo;مناشدات مليونيةraquo; له لتعديل الدستور، الذي كان الرئيس نفسه فور إطاحته بسلفه الحبيب بورقيبة ألغى فيه مادة الفترات المفتوحة لبقاء الحاكم في السلطة، وحددها بدورتين فقط. أي أن الشعب طالبه بـ laquo;تعديل التعديلraquo;. وطبعا لأنه يرضخ للإرادة الشعبية فقد استجاب للمناشدات وغير الدستور ليبقى في الحكم للأبد. ولكن بقيت مشكلة لم تكن في الحسبان، فقد سبق وأضاف laquo;الهاربraquo; فقرة أخرى للدستور بألا يتخطى سن الحاكم عند انتخابه 75 عاما، لكن عندما وجد أنه سيصبح في الـ78 عند ترشحه للانتخابات المقبلة عام 2014، تكررت ما تسميه الصحف الحكومية هناك بـ laquo;المناشدات الشعبيةraquo; بإلغاء هذه الفقرة حتى تتمتع تونس بميزة بقاء بن علي حاكما متحكما في البلاد والعباد. هذه المناشدات الديكورية المصنوعة انكشفت أمام رأي الشارع الحقيقي، خرجت الانتفاضة الشعبية التي أولع شرارتها الشهيد laquo;محمد البوعزيزيraquo; لتهتف laquo;بره.. برهraquo;!
الانتفاضة الشعبية التونسية، وهي الأولى على المستوى العربي التي تنجح في الإطاحة بحاكم ديكتاتور بعيدا عن الانقلابات العسكرية، حملت رسالة الشعب التونسي البطل بوضوح إلى الشعوب المقهورة في كل مكان، وهي أنه ليس مستحيلا إزاحة مغتصبي السلطة و laquo;الكابسينraquo; على أنفاس الشعوب بالقهر والبلطجة، فهذا بن علي رجل الأمن المحترف يرضخ لكل المطالب الشعبية ويخفض الأسعار ويعلن حزمة من الإصلاحات الاقتصادية ويقيل العديد من المسؤولين، لكنه رغم كل هذا يخشى اقتراب الحشود الشعبية من القصر الرئاسي، ويبدأ في تسريب أسرته إلى الخارج قبل أن يفر هو نفسه ويلحق بهم.
لن أكرر السؤال الذي يدور في أذهان الجميع في الساحة العربية وهو: laquo;هل سيتكرر النموذج التونسي في بلدان أخرى على امتداد المنطقةraquo;، فلكل دولة ظروفها، فضلا عن اختلاف laquo;هامشraquo; الحرية بين هذا البلد وذاك. لكن المؤكد أن عشرات الألوف من الحشود الجماهيرية قادرة على كشف ضعف كل ديكتاتور بل وجعله laquo;يرتعشraquo; خوفا، كون الشرطة مهما أوتيت من قوة فلن تستطيع القضاء على كل هذه الحشود. كما أن المسكنات التي تلجأ إليها بعض الأنظمة مثل laquo;الحرية النسبيةraquo; في وسائل إعلامها قد تمتص على المدى القريب الغضب والفوران الشعبي، لكنها في كل الأحوال لن تسد طوفان الغليان القابل للانفجار في أية لحظة.
والعنوان الأهم في الرسالة التونسية، سبق أن أكده طه حسين قبل نحو 80 عاما حينما أوضح أن حرية الشعوب ليست هبة من السماء، وإنما تنتزع انتزاعا، وإن الشعوب الحية تكون على استعداد للتضحية في سبيل حريتها. لبى أبطال تونس النداء وضحى نحو 80 شهيدا بأرواحهم فداء لحرية بلدهم. ما أغلى الأرواح التي استشهدت وما أثمن ما تحقق للأحياء من هذا الشعب، وبالتالي فإن الأهم الآن هو القصاص لأرواح الضحايا، الذين لم يخرجوا طلبا لرفاهية أو بحثا عن قصور فارهة يقيمون فيها. إن كل ما طلبوه هو الحد الأدنى من الحياة الكريمة اللائقة بالإنسان الذي كرمه الخالق على سائر المخلوقات، وحرم قتله بغير ذنب.
لا يكفي ما ذكره سالم، شقيق الشهيد محمد البوعزيزي، بعد الإعلان عن مغادرة بن علي: laquo;الحمد لله ظهر حق أخي، ولم يذهب دمه هدراraquo;، مضيفا: laquo;هم الذين قتلوه، النظام والسلطةraquo;. أقول لا يكفي هذا، إننا إزاء شخص متهم بارتكاب جرائم قتل جماعية، ناهيك من ضحايا التعذيب في غياهب معتقلات النظام. القتل الجماعي بحق المتظاهرين التوانسة تم بشكل علني ومن الشرطة التي يفترض أن توفر الحماية لهم، لا إطلاق الرصاص عشوائيا على رؤوسهم. يجب خضوع الديكتاتور laquo;الهارب الفارraquo; لمحاكمة عادلة، قد يكون بريئا من تهمة إصدار أوامر مباشرة بقتل الجماهير، وأن يكون الأمر مجرد مبادرة من وزير الداخلية أو مسؤولي الأمن باعتبار أن هذا النوع من المبادرات القاتلة متوافر بكثرة في العالم العربي، ظنا من صاحبها أنه سيرضي ولي نعمته الحاكم ويكون محل تقديره بعد تخليصه من صداع المنتفضين.
لقد أعدم صدام حسين بدعوى ضلوعه في إصدار أحكام إعدام بحق 48 شخصا من قرية الدجيل، بعد محاولة لاغتياله هناك دبرها حزب laquo;الدعوةraquo; الذي يحكم العراق حاليا. كانت محاولة الاغتيال ثابتة باعتراف الحزب الذي نفذها والدولة التي رعت ومولت، ورغم ذلك لفوا حبل المشنقة حول رقبة صدام. لكن في الحالة التونسية فعدد القتلى أكبر رغم أنهم لم يقوموا بأي محاولة للمساس بحياة الرئيس، وكل ما فعلوه هو المطالبة بحقوق اجتماعية يكفلها الدستور والقانون.
أرواح الشهداء ترفرف حاليا في سماء الأمة تطلب القصاص، والمتهم -وليس المدان- معروف. ومثل هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم، فالمطلوب ليس أكثر من إعطاء كل ذي حق حقه. حان وقت يذوق فيه من سلخونا وعذبونا وقتلونا جزاء ما قدمت أيديهم.. لا يكفي أبدا ترك الحكم و laquo;الخروج الآمنraquo; وسياسة laquo;عفا الله عما سلفraquo;.
قد تكون هذه المحاكمة العلنية بداية عهد عربي جديد يفكر فيه أي حاكم ألف مرة قبل أن يكرر هذه الفعلة الشنيعة، لا أن يعامل شعبه كقطيع من الأغنام.. حلال سلخه وشيه حسب المزاج، وحينما يجد أن القطيع فك أغلاله وقيوده تكون الطائرة الخاصة جاهزة للفكاك والعيش في رغد بقية عمره، وكأن شيئا لم يكن!!
التعليقات