عمر عبد العزيز


ما يجري في تونس يثير سلسلة من التساؤلات التي تنتصب كالتنين أمام جُل الأنظمة العربية، وتبدو المسألة أكثر دراماتيكية لأنها قادمة من تونس، التي كثيراً ما تباهى نظامها السابق بأنها مختلفة عن الأحوال العربية الإقليمية المجاورة لها. الإعلام التونسي الرسمي كثيراً ما ركز على أفضليات تونس قياساً بدول الجوار العربي، من النواحي الأمنية والخدماتية ذات الصلة بالسياحة، والعناية الاستثنائية بتطوير البرمجيات الالكترونية، بما يذكرنا بتباهي الاقتصاد الأميركي بأفضليته في هذا الجانب، وكثيراً ما نسمع من مناصري هذا الاقتصاد، أنه يتميز عن الصين والهند وكامل القوى الاقتصادية الصاعدة، بكونه يشتغل على الرقميات الذكية، وبوسعه تحقيق أرباح مليارية عن طريق محركات laquo;غوغلraquo; وموقع laquo;فيس بووكraquo; المجيران على نباهة وذكاء حفنة من الشباب الصغار.

مثل هذه الأقوال مردود عليها، لسبب بسيط هو أنها لا تؤمن تنمية حياتية مستدامة يحتاجها مليارات البشر، وليست في وارد الثوابت التي تخرج من تضاعيف الاشتغال المتراكم معرفياً، ولهذا السبب يظهر التعلل الأمريكي الرأسمالي، كما لو أنه يستبدل اقتصاد الواقع بالاقتصاد المجير على الواقع الافتراضي، وتسويق الأوهام، ويتناسى أن حاجة الناس للغذاء والكساء والتعليم المجاني والعلاج المكفول، أهم من حاجتهم لمحركات البحث.

راهن النظام التونسي على تسويق مثل هذه المقولات، ومن خلال المركزية الشديدة، وحاكمية الأسرة النووية، والتعمية الإعلامية الداخلية والخارجية.. تمكن من أن يبدو كما لو أنه حالة مفارقة للزمن السياسي العربي، لكن الفقاعة سرعان ما انفجرت مع أول حادث عرضي تعرض له شاب خريج اضطر للاشتغال كبائع فواكه وخضروات، وتعرض لإهانة بالغة من قبل شرطية لطمته وبصقت في وجهه، فجاء رد فعله الانتحاري بمثابة الشرارة التي أشعلت سهلاً، كما كان يقول ما وتسي تونغ الزعيم الصيني الراحل.

اكتشف العالم فجأة مدى الفداحات السائدة، وكيف أن مئات آلاف الشباب المتعلم يتسكعون في الشوارع، وكيف أن الهراركية السياسية تكشف عن وجه الظالم، الذي يجيز قتل المتظاهرين بالرصاص الحي وبدم بارد.

فتحت أحداث تونس سؤالاً مركزياً في الزمن السياسي العربي، الذي يتواشج في هذا المستوى من المركزيات الفجة، فتداعت الأحوال لنسمع عن إصلاحات ترقيعية هنا وهناك، فالرئيس الليبي معمر القذافي يكتشف فجأة أهمية التضامن مع فقراء تونس ويفتح الحدود للتوانسة! وفي ذات الوقت يقرر إلغاء الضرائب الجمركية على المواد الغذائية، في إشارة ذات مغزى، خاصة وأن ليبيا الغنية بالنفط تشهد موجة من ارتفاع أسعار المواد الغذائية. وفي الأردن تتم إعادة النظر في أسعار مواد أساسية للاستهلاك، وفي اليمن يقيل الرئيس علي عبد الله صالح وزير النفط، بعد أن تزايدت طوابير محطات البترول في بلد يصدر النفط.

لكن الرئيس التونسي (السابق) زين العابدين بن علي، لا يتوقف عند تخوم مراجعة الذات وإطلاق سراح المعتقلين، بل يقيل وزير الداخلية، ثم يتبع ذلك بإعلان تحرير الصحافة، وإشهار تخليه عن ترشيح نفسه للرئاسة laquo;مدى الحياةraquo;، بل يعد بمحاسبة من قدموا له تقارير مضللة عن أوضاع البلد.. هكذا!

الانتفاضة الشعبية العفوية التونسية، قدمت مسحا جيوسياسيا للمنطقة العربية برمتها، لتكشف لنا مدى الانكشاف المعنوي والأخلاقي لعالم لا تنقصه الإمكانيات، بل الآليات الحديثة لإدارة الدولة العصرية.. عالم تنقصه الشفافية والمشاركة، ويستغرق نفسه في متواليات لإنتاج المتاهات، والتهميشات، والإقصاءات.

أمام النظام العربي الرسمي اليوم أسئلة ملحة، واستحقاقات أكثر إلحاحاً، فلم يعد في الوقت متسع، ولقد فاض الكيل وبلغ السيل الزبى، فإما الإصلاح، وإما التغيير الذي سيأتي.. ولو من الشارع.