محمد محفوظ

كثيرة هي الدروس والعبر الإستراتيجية, المستفادة من أحداث أفغانستان منذ الغزو الأطلسي لها, إلى طبيعة الأحداث والتطورات الأخيرة التي تجري في المشهد الأفغاني.. فبعد أن تمكنت القوات الأطلسية من إسقاط نظام طالبان واحتلال كل الأراضي الأفغانية, وتمركز قوات عسكرية أطلسية هائلة في كل مناطق أفغانستان.

ها هي طالبان اليوم تزحف على مناطق أفغانستان, وتسيطر أمنيا واجتماعيا وسياسيا على بعضها.. ويعلن المسؤولون الغربيون المعنيون بالملف الأفغاني أنهم على استعداد للحوار مع طالبان, من أجل إشراكها في الحكم الأفغاني, إذا فكت ارتباطها بتنظيم القاعدة.. وكلنا تابع قدرة أحد الأفغان العاديين من اللقاء مع المسؤولين الغربيين, بوصفه مندوب طالبان للحوار, وأنه قبض منهم مئات الآلاف من الدولارات. وأجهزة الغرب كلها العاملة في أفغانستان, لم تتمكن من اكتشاف حقيقة الرجل واحتياله ..

الاحتلال العسكري للأراضي والشعوب, يزيد من احتمال قوة الإرهاب, وتمكنه من ملامسة العصب الوطني, الذي يزيد من التفاف الناس حول هذا المشروع أو الحركة التي توصم بالإرهاب. فإرهاب الدول لا ينهي إرهاب الحركات والأحزاب, بل يفاقمه, ويوفر له أغطية عديدة للاستمرار والتمدد.

فبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر, وانطلاق الجحافل الأطلسية لاحتلال أفغانستان وإسقاط حكومة طالبان، وإلى اليوم لا نستطيع القول إن القوات الأطلسية استطاعت إنهاء الظاهرة الطالبانية في أفغانستان.. بل على العكس من ذلك تماما.. حيث يعود النفوذ الطالباني, وتتراجع إمكانية قوات الاحتلال من إدارة أفغانستان وفق أجندتها السياسية والأمنية, وتزداد المحاولات الغربية التي تستهدف الانفتاح على طالبان والحوار معها..

وأمام هذا الواقع الذي يعيشه المشهد الأفغاني, هناك ثمة دروس وعبر نستخلصها من طبيعة أحداث وتطورات الملف الأفغاني. ولعل من أهم هذه الدروس والعبر الآتي:

1- إن تجربة الاحتلال العسكري للدول, لا تنهي ظاهرة الإرهاب, بل على العكس من ذلك تماما .. حيث يزيدها الاحتلال أوارا واشتعالا.. وإن تجربة القوات الأطلسية في أفغانستان, تثبت بشكل لا لبس فيه أن الاحتلال العسكري والقوات العسكرية, قد تتمكن من إسقاط حكومة أو نظام سياسي هنا أو هناك, ولكنها لن نتمكن من معالجة ظاهرة الإرهاب, أو إنهاء جذورها وأسبابها المختلفة..

فالاحتلال العسكري للأراضي والشعوب, يزيد من احتمال قوة الإرهاب, وتمكنه من ملامسة العصب الوطني, الذي يزيد من التفاف الناس حول هذا المشروع أو الحركة التي توصم بالإرهاب.

فإرهاب الدول لا ينهي إرهاب الحركات والأحزاب, بل يفاقمه, ويوفر له أغطية عديدة للاستمرار والتمدد.

وقيام الدول الكبرى باحتلال أراضي الغير والهيمنة على شعوبها وزرع القواعد العسكرية المليئة بأفتك الأسلحة وأطورها, لا ينهي ظاهرة الإرهاب بل يحييها ويخلق الجذوة والحماسة في أوصالها ..

فالاحتلال العسكري مهما كان عنيفا ومتغطرسا, فإنه لم يتمكن من القضاء على ظاهرة الإرهاب. من هنا ومن أجل الأمن الإقليمي والدولي, من الضروري وبالذات على الدول الكبرى والتي ترفع شعار محاربة الإرهاب, أن تدرك هذه الحقيقة, وتكف عن ممارسة الإرهاب باسم محاربة الإرهاب, وتنهي محنة الشعوب التي عانت الويلات من احتلالها العسكري وهيمنة عسكرها على كل مفاصل الحياة.

والذي يزيد الأمور سوءا باستمرار, أنه في ظل الاحتلالات العسكرية, تنمو طبقة طفيلية - فاسدة, تساهم في نهب شعبها وامتصاص مقدراته لصالح فئة زبائنية قليلة ومحدودة وفاسدة ..

وبدون إعادة النظر في هذه التجربة وخياراتها الكبرى, لن تنتهي ظاهرة الإرهاب, وإنما ستزداد وتتمدد وتصل إلى مواقع جديدة .فالشعب الأفغاني لا يحكم بقوى عسكرية محتلة, وتجاربه التاريخية والمعاصرة, تثبت هذه الحقيقة, ومن يشك فيها, عليه أن يقرأ تاريخ هذا الشعب, الذي قاوم كل الاحتلالات بكل إمكاناته وفئاته. ومن يبحث عن الأمن الدولي والإقليمي, عليه أن يبحث عن وسائل وآليات أكثر حيوية وفعالية ونجاعة, بعيدا عن تجربة الاحتلال العسكري لشعوب مستضعفة وفقيرة ومضطهدة. فالولايات المتحدة الأمريكية ومنذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر, انتهجت خيار الحرب على الإرهاب عبر احتلال أفغانستان والعراق والعمل على التغيير العنيف لبعض المعادلات السياسية والإستراتيجية القائمة في المنطقة. ولكن وبعد هذه السنين الطويلة, ماذا كانت النتيجة . هل تمكنت الولايات المتحدة الأمريكية بكل قوتها العسكرية, أن تنهي ظاهرة الإرهاب. وبلغة مباشرة هل الاحتلال الأمريكي لأفغانستان, قضى على تنظيم طالبان وتنظيم القاعدة. أم أن الاخبار القادمة إلينا من أفغانستان, تثبت لنا عكس ذلك تماما..

فلا زال تنظيم طالبان موجودا في أفغانستان, ويستجمع قوته, ويقوم بعمليات نوعية ضد قوى الاحتلال.

كما أن تنظيم القاعدة لم يتلاش, بل يزداد نفوذا وقوة في أفغانستان ومناطق أخرى من العالم ..

فالاحتلال لا ينهي إرهابا, بل يزيده إشعالا وأوارا..

2- فكما أن الاحتلال العسكري لا ينهي جذور الإرهاب وأسبابه المباشرة وغير المباشرة, كذلك هو العنف الداخلي لا ينهي ظاهرة الإرهاب, وإنما يزيده حيوية وفعالية على المستويين الأفقي والعمودي.

فالعنف الذي تمارسه بعض الدول والحكومات, لإنهاء ظاهرة الإرهاب في مجتمعها , تثبت أن النتيجة هي عكس ذلك تماما..

فالخيار الأمني ضرورة لمحاصرة الإرهاب, والحد من غلوائه وإرهابه وتمدده الاجتماعي, إلا أنه بوحده, لا يقضي على ظاهرة الإرهاب.. فالإرهاب هو ظاهرة مجتمعية مركبة, وتداخلت في صنعه عوامل عديدة ومتشعبة , ولا يمكن القضاء على ظاهرة الإرهاب بوسيلة واحدة أو خيار واحد, وإنما هي بحاجة إلى مشروع متكامل يتداخل فيه الديني والسياسي والأمني والاجتماعي والاقتصادي ، بحيث تتكون وقائع وحقائق مضادة في الواقع الاجتماعي والسياسي..

وعليه فإننا نرى ووفق هذه الرؤية, أن أفغانستان لن تستتب أمورها , وتحصل على استقرارها العميق , بدون مصالحة حقيقية تشترك جميع قوى وفعاليات الشعب الأفغاني فيها ..

ولقد أثبتت التجارب أن إقصاء طرف من الأطراف أو مكون من المكونات, لا يفضي إلى الأمن والاستقرار السياسي. وإنما يوفر إمكانية أن تمارس بعض المكونات والتعبيرات المنبوذة من الحياة العامة ممارسات وأعمال تفضي إلى إفشال كل التجربة ..

لهذا فإن الاستقرار السياسي في أفغانستان, لن يتأتى إلا بمصالحة تاريخية بين جميع مكوناته وتعبيراته , بحيث يكون النظام السياسي , هو تعبير أمين ودقيق عن جميع المكونات والتعبيرات.. فالاحتلال العسكري لأفغانستان مهما كانت قوته وجبروته, لا يبني استقرارا والعنف الطارد والنابذ لبعض المكونات والتعبيرات, لا يقود إلى بناء حياة سياسية وطنية سليمة.. بل يقود إلى إنتاج المشكلة والأزمة بيافطات وعناوين جديدة, فأفغانستان لن تنعم بالاستقرار والأمن, إلا بخروج المحتل, وقدرة جميع الفرقاء على بناء حياة سياسية بعيدا عن نزعات النبذ والإقصاء والاحتماء بالأجنبي.