بغداد - زيدان الربيعي


من المؤمل أن تستضيف العاصمة العراقية بغداد عند نهاية شهر مارس/آذار المقبل القمة العربية الدورية استناداً لمقررات القمة العربية السابقة التي أقيمت العام الماضي في ليبيا والتي اتخذت قراراً بهذا الشأن رغم تحفظ بعض الدول العربية عليه بحجة أن العراق ما زال يرزح تحت محنة الاحتلال الأمريكي، إضافة إلى أن الوضع الأمني فيه ما زال غير مستتب ما يؤثر في سلامة وأمن القادة العرب .

إلا أنه لغاية الآن هناك حالة من الشد والجذب حول انعقاد هذه القمة في بغداد بسبب الأوضاع الراهنة التي تشهدها العاصمة العراقية، ولاسيما من الناحية الأمنية وخصوصاً ما يتعلق بظاهرة الاغتيالات التي طالت الكثير من العراقيين بالمسدسات الكاتمة للصوت .

بعض الوفود العربية تتخوف من المجيء إلى بغداد بسبب التراكمات السابقة التي شهدتها هذه المدينة العربية العريقة بعد الاحتلال، بعدما باتت مدينة للقتل والدمار والانفجارات بعد أن كانت في السابق مدينة للحب والسلام والوئام والجمال . إلا أن الكثير من المسؤولين العراقيين ما زالوا يثقون بعقد القمة في بغداد تحديداً، وليس في أربيل عاصمة إقليم كردستان كما ترغب بعض الوفود العربية في ذلك، على اعتبار أن الوضع في إقليم كردستان أكثر استقراراً من بقية المحافظات العراقية . وقد تعززت هذه الثقة في الآونة الأخيرة من خلال زيارة كبار المسؤولين العرب إلى بغداد وتأكيدهم على المشاركة في القمة العربية، حيث مثلت زيارات كل من الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى، وكذلك وزير الخارجية المصري ورئيس الوزراء الأردني ورئيس الوزراء الكويتي، وأخيراً رئيس الوزراء السوري إلى بغداد رسالة اطمئنان للمسؤولين العراقيين بأن هناك رغبة عربية جادة وحقيقية المشاركة في القمة العربية المقبلة في بغداد . ولم يقتصر هذا الاطمئنان فقط على الدول التي أوفدت مسؤولين كباراً منها إلى زيارة بغداد، إنما شمل دولاً أخرى مثل اليمن التي أكدت عبر سفيرها الجديد في بغداد أن رئيسها علي عبد صالح سيشارك في قمة بغداد المقبلة . فضلاً عن ذلك فإن الوضع الأمني الجيد الذي تعيشه بغداد بعد تشكيل حكومة المالكي الجديدة الشهر الماضي من ناحية عدم وقوع انفجارات ضخمة في بغداد، مثلما كان يحدث في السنوات السابقة أعطى دفعة قوية للحكومة العراقية التي وجدت مساندة قوية من كل القوى السياسية المشاركة في العملية السياسية لكي تؤكد لكل القادة العرب أنها قادرة على تنظيم القمة من دون أي خروقات تحصل . حيث يوجد هناك تصميم كبير من كل القادة السياسيين سواء الذين يشاركون في الحكومة أو في البرلمان أو في رئاسة الجمهورية أو من قادة الأحزاب السياسية على إنجاح قمة بغداد بأي شكل من الأشكال، وأولى بوادر هذا التصميم أننا لم نجد ولو قائداً سياسياً واحداً يشكك بقدرة العراق على احتضان القمة العربية المقبلة .

واستناداً إلى تجربة افتتاح وتنظيم معرض بغداد الدولي في نهاية العام الماضي التي تم فيها إغلاق كل الطرق التي تؤدي إلى مكان إقامة المعرض أمام جميع سيارات المواطنين . ومن هذه التجربة فإن الحكومة العراقية قادرة فعلاً على حماية القمة العربية من الناحية الأمنية، لأنها ستقوم بإغلاق كل الطرق والممرات التي تربط مكان إقامة الوفود العربية المشاركة بمطار بغداد الدولي، الأمر الذي يجعل أيام القمة ثقيلة جداً وربما تحمل قسوة كبيرة على المواطنين العراقيين، ولاسيما سكان قضاء الكرخ بسبب انقطاع الطرق، وهذا الاعتقاد ليس الهدف منه التقليل من إمكانات الحكومة العراقية في توفير الحماية الكافية لضيوف وادي الرافدين من القادة العرب أو حالة من عدم الترحيب من قبل المواطنين العراقيين بأشقائهم العرب، إنما بسبب الإجراءات الأمنية الشديدة التي ستتخذ من أجل إنجاح القمة أمنياً وسياسياً، لكن الشيء المؤكد أنه لن يكون بمقدور الزعماء العرب القيام بجولة حرة في بغداد بسبب مخاوف من احتمال استهدافهم من قبل الجماعات المسلحة، خصوصاً إذا عرفنا أن بعض الجهات العراقية المعارضة ترى في وجود القادة العرب في بغداد انتصاراً للحكومة العراقية الجديدة وكذلك للعملية السياسية، لذلك هي تحاول الآن جاهدة من خلال أجنحتها العسكرية المختلفة الموجودة في بغداد أن تضع بعض العراقيل أمام انعقاد القمة، ومن أهم هذه العراقيل تصعيد أعمال العنف في بغداد خلال الشهرين المقبلين، حيث إذا حصل مثل هذا الأمر فإن القمة العربية المقبلة ستفشل قبل أن تبدأ، لأن الكثير من القادة العرب سيعتذرون عن عدم المشاركة أو يبعثون من يمثلهم فيها . لكن يبدو أن هذا الأمر مستبعد تماماً في ضوء مشاركة كل الكتل السياسية في حكومة المالكي، وتأكيد الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى أن العراق الآن لم يعد فيه تهميش أو إقصاء لأي طرف يذكر . حيث كان كلام موسى هذا قد أضعف الكثير من طموحات الجهات العراقية التي تحاول منع عقد القمة في عاصمة الرشيد، لأن هذه الجهات سبق لها أن دعت كل القادة العرب إلى مقاطعة قمة بغداد، لأنها ستقام تحت حراب الاحتلال الأمريكي .

إجراءات الحكومة العراقية

تراهن الحكومة العراقية كثيراً على العلاقات الجيدة مع جميع الدول العربية، وتتمنى أن يكون التمثيل الدبلوماسي العراقي موجوداً في كل العواصم العربية، وفي الوقت نفسه تتمنى أيضاً أن يتواجد سفراء كل الدول العربية في بغداد، حتى يعود العراق مجدداً إلى أحضان أشقائه بعد ابتعاد عن بعضهم بعد الاحتلال، وقطيعة تامة مع البعض الآخر . لذلك فقد بدأت الحكومة العراقية بانفتاح كبير جداً على الدول العربية، وكان هذا الانفتاح من ضمن البرنامج الحكومي الذي اعتمدته عند تشكيلها . وعليه فإن الحكومة العراقية ستكون حريصة جداً على استثمار انعقاد القمة العربية في بغداد لكي تزف بشرى كبيرة إلى جميع أبناء الأمة العربية تؤكد فيها أن بغداد ما زالت تمثل قلب العروبة النابض، وكذلك تحاول من خلال هذه القمة أن تؤكد للجميع أن العراق الذي كان يقتل فيه العشرات يومياً لم يعد كما كان قبل سنوات من الآن . يضاف إلى كل هذا فإن العراق يحاول من خلال هذه القمة أن يعود العمل العربي المشترك إلى سابق عهده، حيث كانت البلدان العربية التي كانت متخوفة من الاقتراب من العراق الجديد بسبب الاحتلال وبروز الطائفية السياسية فيه، حيث ما زال العراق يتمنى ويطمح إلى أن تسهم الشركات العربية في إعادة إعمار العراق بعد الخراب الكبير الذي تعرض له جراء الحروب التي خاضها النظام السابق أو ما حصل له من تدمير شبه كامل بعد الاحتلال الأمريكي .

وفي هذا الإطار كان رئيس الحكومة العراقية حريصاً جداً على أن يبعث رسائل تسهم في بث الاطمئنان والراحة في نفوس العرب عموماً عندما حرص يوم الأحد الماضي على استقبال سفراء الدول العربية ورؤساء البعثات الدبلوماسية العاملة في العراق وأطلعهم على ما يخطط له العراق الآن، حيث قال لهم: ldquo;إن العراق يفتح قلبه وذراعيه للجميع لأنه مقبل على تطور في مجالات البناء والإعمار والاقتصاد والثروة والنفط، وأن خير العراق هو خير لجميع أشقائه، وأن هذا اللقاء بالسفراء العرب يأتي في ظل الظروف التي عبر بها بلدنا نحو الاستقرار والإعمار والبناءrdquo; .

وأضاف المالكي: أن بلدنا كبقية الدول يمر بأزمات أو قد يشهد اختلافات، لكن الشيء الذي نمتاز به هو أننا نتفق في النهاية، وأصبح منهجنا أن نتفق في إطار بلدنا وتحقيق مصالحه، وأن كل التجارب التي قامت على التمييز على أسس طائفية وفئوية وغيرها قد انتهت نتيجة الإصرار على الوحدة الوطنية، وأن العراق استفاد من تجربته، ولم يعد هناك اليوم عراقي من الدرجة الأولى أو الثانية، والكل متساوون، ونحن نتجه لقطف ثمار النجاح الذي حققناه، وإذا كان البعض لم يكن شريكاً في السلطة التنفيذية، فالجميع دخلوا فيها اليوم، ولم يعد هناك أحد خارج دائرة المسؤولية، وكان شعارنا المصالحة الوطنية، وقد أنجزنا المصالحة المجتمعية، وبتشكيل حكومة الشراكة الوطنية التي ضمت الجميع حققنا الشق الثاني من المصالحة الوطنية وهو المصالحة السياسية، والمبدأ الذي نعمل به هو أن يكون الكل أساسيا في العملية السياسية، وقد أصبحنا شركاء في تحمل المسؤولية، وهو ما يعطينا دفعة قوية نحو البناء والإعمار .

وذكر المالكي ldquo;لقد أنجزنا الوحدة الوطنية والشراكة الوطنية، وهو إنجاز كبير جداً، وتبقت أمامنا مهام بناء الدولة على أساس الدستور الذي نؤمن به، والانطلاق بعلاقات واسعة مع محيطنا العربي والإقليمي والدولي، ونحن على استعداد لتقديم جميع التسهيلات للدول العربية الشقيقة للحضور إلى العراق، وفتح السفارات التي لم تفتح حتى الآن، وأن جهودنا تنصب لإنجاح القمة العربية المقبلة التي ستعقد في بغداد، ونتطلع إلى أن يكون الحضور فيها بشكل واسع من قبل القيادات العربية، وانطلاقاً من مؤتمر القمة العربية، نريد أن نكون أكثر حضوراً وتعاوناً مع الدول العربية، وأن نكون سوية في المحافل الدولية والاقتصاد على قاعدة الاحترام المتبادل والمصالح المشتركةrdquo; .

إجراءات أمنية

وقد اتخذت الحكومة العراقية الكثير من الإجراءات من أجل تحسين صورة العاصمة بغداد أمام ضيوفها من الأشقاء العرب . ومن أبرز هذه الإجراءات توفير مكان إقامة مريح للقادة العرب في فنادق متطورة وقد تم تحصينها بشكل جيد من كل النواحي مع توفير الإجراءات الأمنية المشددة في العاصمة بغداد حتى لا يحصل خرق معين يؤثر سلباً في مجريات القمة . وكذلك قررت أمانة بغداد وبأمر من الحكومة المركزية ترميم كل البنايات المتضررة في بغداد سواء كانت حكومية أو تابعة للقطاع الخاص، بحيث هذا الترميم أصبح إجبارياً ولا مجال لأي صاحب بناية أن يتملص منه . كما أن أمانة بغداد بدأت حملة كبرى لتنظيف العاصمة بغداد وتجميلها حتى تخرج بأبهى صورة قبل العرس العربي المرتقب في بغداد .

ويتضح من خلال هذه الاستعدادات أن القمة العربية ستعقد في بغداد بشكل يكاد يكون قطعياً، كذلك يتضح أن الحكومة العراقية التي أصبحت حكومة شراكة وطنية حقيقية بعد مشاركة جميع الكتل التي فازت بالانتخابات الأخيرة فيها تريد أن تغلق ملف الخلافات بينها وبين بعض الدول العربية التي ما زالت بعيدة عن الوضع العراقي الجديد وخاصة دول المغرب العربي التي لم تتقدم أية خطوة باتجاه العراق بعد سقوط النظام العراقي السابق بسبب وجود قناعات خاصة بها .

سباق عربي نحو بغداد

إن تشكيل الحكومة العراقية الجديدة التي ضمت كل الطيف العراقي جعل الدول العربية عموماً والدول العربية القريبة من العراق جغرافياً على وجه الخصوص تندفع نحو بغداد بشكل غير مسبوق، حيث زار بغداد في الأسابيع الأخيرة عدد من رؤساء الحكومات العربية وبعض الوزراء العرب، وقد شملت أجندة زياراتهم إبرام الكثير من العقود في مختلف القطاعات التجارية والاقتصادية والعلمية . ولم تقتصر هذه الزيارات على بعض رؤساء الحكومات العربية، إنما في المستقبل القريب ستستقبل بغداد مسؤولين عرب آخرين .

لكن ما أسباب هذا التدافع العربي الكبير وغير المسبوق نحو بغداد؟ هل شعر العرب بأن بغداد اليوم أكثر حاجة إليهم من أي وقت مضى بعد أن ابتعدوا عنها طويلاً وتركوها تعاني وتئن من إرهاصات الاحتلال الأمريكي؟ أم أن بغداد استطاعت أخيراً أن تقف على قدميها بعد أن لعقت جراحها العميقة والمؤثرة؟ أم أنهم أيقنوا أن ترك بغداد بمفردها سيجعلها تبتعد عنهم وترتمي في أحضان دولتين إسلاميتين مجاورتين للعراق؟ إن كل هذه الأسباب مجتمعة قد تكون هي التي دفعت بعض الدول العربية لكي تنفتح بقوة على بغداد وهذا أمر جيد ومفرح حقيقة لكل العراقيين الذين يرون أن ابتعادهم عن العرب يمثل خسارة وضعفاً لهم، وأن ابتعاد العرب عنهم في الوقت نفسه يمثل أيضاً حالة من الخسارة لعموم أبناء الأمة العربية على اعتبار أن العراق بلد مهم جداً في الجسد العربي وعلى مختلف الصعد . لكن هذا الاندفاع العربي غير المسبوق نحو بغداد يعود إلى أن العرب أيقنوا تماماً أن الانسحاب الأمريكي من العراقي سيتم نهاية العام الحالي حسب بنود الاتفاقية الأمنية التي وقعتها حكومة المالكي السابقة مع إدارة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن، وصادق عليها البرلمان العراقي عند نهاية عام ،2008 وأن هذا الانسحاب سيولد فراغاً كبيراً في بلاد ما بين النهرين، وأن هذا الفراغ إذا لم يقم العرب بشغله وسده فإن إيران التي كانت وما زالت تمتلك نفوذاً كبيراً في الشأن العراقي الداخلي وعلى مختلف الصعد هي التي ستتولى الدور، وبالتالي فإن إبعادها عن العراق سيكون أمراً صعباً للغاية . لذلك اتجه العرب مجدداً نحو العراق وهذا الاتجاه هذه المرة قوياً وصادقاً وإن كان متأخراً، لأن هذا الاندفاع إذا حصل الآن أفضل بكثير من أن يحصل بعد سنتين وربما أكثر .

ومقابل ذلك بدأ العراقيون عموماً يشعرون بأن قطيعة العرب السابقة للعملية السياسية العراقية التي تشكلت بعد الاحتلال لم تعد مقنعة بعد أن زالت الكثير من مبرراتها، فالاحتلال بطريقه للرحيل عن أرض الرافدين وكذلك الحكومة الجديدة راعت في تشكيلتها كل أطياف المجتمع العراقي ولم يعد هناك تهميش أو إقصاء لأحد مثلما كان قد حدث في السنوات السابقة . كذلك فإن ابتعاد العراق عن العرب وفصله عن الجسد العربي قد أضعفا الاثنين (العراق والعرب)، والدليل على ذلك ما يحصل الآن من أمور خطيرة في الكثير من البلدان العربية .

ماذا تعد القمة العربية لبغداد؟

إن انعقاد القمة العربية في بغداد إذا حصلت في موعدها سيكون انتصاراً كبيراً لبغداد أولاً، لأنها بهذه القمة تكون قد عادت بعد غياب طويل إلى احتضان أشقائها العرب بلهفة كبيرة وشوق وحنين . وثانياً تكون قمة بغداد انتصاراً لعموم العراق، لأن هذه القمة ستمثل رسالة جميلة جداً إلى كل العالم، مؤداها أن العراق اليوم لم يعد كما كان قبل سنوات من جميع النواحي . وثالثاً أن جميع العرب سيودعون بغداد وهم في داخلهم يشعرون بفرحة كبيرة جداً، لأن هذه الحاضنة العربية والإسلامية المهمة جداً في التاريخين العربي والإسلامي لم تعد كما كانت قبل سنوات رهينة الاحتلال الأمريكي، إنما هي اليوم أصبحت بيد أبنائها وقريبة من أشقائها .