صبحي حديدي

لم يكن في وسع الدكتور شبلي تلحمي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة ماريلاند الأمريكية، أن يتكهن البتة بأنّ سنة 2011 سوف تحمل معها بشارة انتفاضة تونس؛ بل انّ استطلاع الرأي العام العربي، الذي يشرف على تنفيذه سنوياً لصالح مركز حاييم صبان، معــــهد بروكنغز، تجاهــــل تماماً مسائل الديمقراطية والتمثيل البرلماني وحقوق الإنسان والحرّيات العـــامة والدستورية، ولم يتطرّق أبداً إلى موضوع التحرّكات الجماهيرية وأشكال ومضامين الإحتجاج في الشارع الشعبي العريض. وحال تلحمي، في عدم استشعار ديناميات الشارع التونسي وسواه، تشبه حال الغالبية الساحقة من مراقبي الشؤون العربية، للإنصاف؛ ولعلّ الشهيد محمد بوعزيزي، نفسه، لم يكن ينتظر هذا المآل الصاعق، حين أسلم جسده للنيران.
واستطلاع الرأي لعام 2010 شمل، هذه المرّة أيضاً، مواطني ستة بلدان عربية فقط (هي مصر، الأردن، لبنان، المغرب، السعودية، الإمارات العربية)، فغاب بالتالي رأي مواطني بلدان أساسية مثل سورية والعراق (لأسباب أمنية قد تكون مفهومة، جزئياً) والجزائر واليمن والسودان وفلسطين وتونس ذاتها (لأسباب يصعب أن تكون مقنعة). ومع ذلك، يجب القول مجدداً أنّ الغياب شبه التامّ لاستطلاعات ذات مصداقية ترسم بيانات الرأي العام العربي، يجعل خلاصات البروفسور تلحمي جديرة بأقصى الاهتمام من جانب جميع الأطراف المعنيّة بالوقوف على نبض الشارع العربي: أوساط المعارضات العربية، قبل أجهزة استخبارات الأنظمة؛ ومراكز الأبحاث العربية، على ضعف حيلتها وقلّة مواردها، قبل معاهد كونية كبرى مثل بروكنغز وكارنيغي ومعهد واشنطن.
ويتوجب القول إنّ نتائج استطلاعات مركز صبان تلقى انتباهاً خاصاً من خبراء البيت الأبيض، بصدد طائفة كبرى من معضلات الشرق الأوسط؛ فضلاً عن معطيات تخصّ مزاج المواطن العربي تجاه أمريكا وسياساتها عموماً، وسيّد البيت الأبيض بصفة خاصة (على سبيل المثال، 51 بالمئة غير راضين عن أوباما، وينظرون بتشاؤم إلى سياسته الخارجية؛ و38 بالمئة راضون عنه شخصياً، ولكنهم على يقين بأنّ 'النظام' في أمريكا سوف يمنعه من اعتماد سياسة خارجية ناجحة؛ ولا يرضى عنه، وعن سياساته، سوى 5 في المئة). لكنّ الرأي العام العربي يظلّ ثابتاً بصدد ترجيح عوامل التواجد العسكري الأمريكي في المنطقة: حماية إسرائيل، بنسبة 49 بالمئة؛ السيطرة على النفط، 44؛ إضعاف الإسلام وبسط الهيمنة، 33؛ و... محاربة الإرهاب، 7 بالمئة فقط! وخيبة أمل المواطن العربي من سنة أوباما في البيت الأبيض تتركز على فلسطين/ إسرائيل، 61 بالمئة؛ العراق، 27؛ الموقف من الإسلام، 5.
في المقابل، لا يلوح أنّ الشارع العربي يتوجس خيفة من إيران، أو يعتبرها خطراً داهماً، رغم أنّ 57 بالمئة على ثقة من أنّ برنامجها النووي عسكري الطابع، مقابل 38 يرجحون أنّ أغراضه سلمية؛ وغالبية الآراء ترفض الضغوط الدولية لإيقاف البرامج النووية، وتعتقد نسبة 77 بالمئة أنّ من حقّ طهران تنفيذها (مقابل نسبة 53 السنة الماضية). 57 بالمئة اعتبروا أنّه لو تمكنت إيران من تصنيع قنبلة نووية، فإنّ النتيجة سوف تكون أكثر إيجابية للمنطقة، وليس أكثر سلبية.
لافت، من جانب آخر، أنّ الزعماء الثلاثة الذين يحظون بأعلى درجات الرضا ليسوا من العرب: رئيس وزراء تركـــــيا، رجب طيب أردوغان (20 بالمئة، مقــــــارنة بـ 4، السنة الماضية)؛ الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز (13 بالمئة، هبط إليها من 24، سنة 2009)؛ الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد (12 بالمئة، مقارنة بـ 6). ولا ينقذ الشرف العربي إلا الأمين العام لـ'حزب الله'، السيد حسن نصر الله (9 بالمئة، مقارنة بـ 6 السنة الماضية، و27 سنة 2008).
ذلك يقود المرء إلى استعادة دراسة رائدة بعنوان 'الشارع العربي: الرأي العامّ في العالم العربي'، كتبها دافيد بولوك، وصدرت سنة 1992 عن 'معهد واشنطن لسياسة الشرق الأوسط'. هنا ثلاث توصيات، بين أخرى عديدة، خلص إليها بولوك: 1)، الشارع العربي ليس خرافة قوموية أو ثوروية أو رومانتيكية، بل هو موجود وقابل للقياس، فلا تتجاهلوه ولا تقللوا من قيمته قياساً على 'عطالة' ظاهرية؛ و2)، الرأي العام العربي أبعد ما يكون عن التجانس والوحدة والثبات، حتى في مسائل متفجرة مثل الإسلام والديمقراطية، فلا تضعوا كلّ الرأي العامّ العربي في سلّة واحدة؛ و3)، النُخَب العربية جريحة بهذا القدر أو ذاك، في هذه الإشكالية الايديولوجية أو تلك، هنا أو هناك.
ولكن حذار، يتابع بولوك، لأنّ النخبة شيء (هامّ للغاية، بطبيعة الحال)، والشارع شيء آخر. لا تدعوا كوابيس الأحلام المنكسرة عند المثقف تحجب هدير الشارع في ساعات الصباح الأولى، أو نهايات يوم عمل شاق بحثاً عن اللقمة، وافتحوا كلّ العيون على المساجد والأزقة والمقاهي وملاعب كرة القدم. وبهذا فإنّ عربة الخضار التونسية إنما تندرج في صلب تصانيف هدير الشارع، ودوّامات البحث الشاقّ عن اللقمة؛ ومن المدهش أنّ بولوك تنبّه إلى أمثولتها قبل 18 سنة، وفات تلحمي أن يستبصر نذيرها قبل أسابيع من اشتعال جسد الشهيد بوعزيزي.
ولا يُلام البروفسور، في الواقع، لأنّ هدير العربة لم يبلغ أسماع الطاغية نفسه، مثل زبانيته وجلاّديه وبصّاصيه، إسوة بأشقائه الطغاة في أربع رياح العرب!