فؤاد مطر

عندما تزايدت حدة الضجر الشعبي من الرئيس الراحل جعفر نميري قرر أن يعتمد تطبيق الشريعة في السودان خشية أن يسبقه أحد من الذين يسيل لعابهم لامتلاك السلطة. ولكي لا يترك المجال أمام الناس للافتراض بأن كلامه عن الشريعة هو وَنَسَة لا أكثر، أي كلام للدردشة في مجلس وليس لتعديل دستوري صاعق، فإنه أصدر من الأحكام على سكارى وزُناة، ما تسبَّب التنفيذ لبعضها بحالات من الهلع في أوساط المجتمع. كما أن مهرجان تحطيم ألوف زجاجات الخمر على ضفة laquo;المقرنraquo; حيث ملتقى النيليْن جاء خطوة فولكلورية قوبلت بالعتب على الرئيس من أصدقائه الجنوبيين المتسالم معهم، الذين كانوا يتمنون لو خصَّهم بهذه الزجاجات بدل تحطيمها تغنيهم عن شراب laquo;الماريساraquo; الذي يتهته أدمغتهم ويزيدهم ضياعا.

بعد نحو ربع قرن من هذا الذي فعله المشير نميري يأتي نظيره في الجنرالية الفريق أول عمر حسن البشير ليقول في لحظة اتساع حدة الضجر الشعبي من طول بقاء laquo;ثورة الإنقاذraquo;، متفردة لا تستضيف مَن يعارض ولا مَن يطلب شراكة، ما معناه أنه في حال انفصل الجنوب فإنه سيعلن السودان المنزوع جنوبه دولة إسلامية القوانين.

وكانت حيثية laquo;الإنقاذraquo; عند فوزها بالسُلطة التي انتزعتْها من صيغة حكم متدين ويحترم بعض الشيء الأصول الديمقراطية أن مشكلة السودان هي في ابتعاد حكام تعاقبوا عليه عن الدين والشريعة. كما كانت حيثية الرئيس البشير والشيخ حسن الترابي هي التطبيق الحرفي للقوانين الإسلامية التي لم يُحْسن المبادِر الأول لها نميري تطبيقها.

من الصعب تفسير ذلك التوجه الذي لم يجرؤ ورثة الحقبة النميرية - من المرور العابر للجنرال سوار الذهب إلى الصادق المهدي الإمام حفيد الإمام عبد الرحمن - لا على إلغاء القوانين ولا على التطبيق الحرفي لها، وهذا من أجل أن لا ينفصل الجنوب ذات يوم. كما من المستغرَب قول الرئيس البشير إنه إذا اختار الجنوبيون الانفصال فإنه سيحترم خيارهم وإنه سيساعد الجنوب، ربما لاقتناع من جانبه بأن الأمر لن يعدو كونه حالة غير مستقرة وأن الجنوب في هذه الحال مهاجر أو مغترب حاله من حال ملايين السودانيين المهاجرين إلى ديار الله الواسعة في الخليج شرعا أو تهريبا عبر الحدود السورية - اللبنانية طلبا للعمل والعيش الكريم بما يتيسر.

وهذا الذي سمعناه من الرئيس البشير وحوارييه وبالذات أولئك الذين يرون في سودان منزوع جنوبه فرصة شبه مضمونة لهم لكي يصمدوا في مواقعهم حول الرئيس الذي تتجدد ولايته الرئاسية أو يرثوا منه السلطة. ومن أجل ذلك نلاحظ أنهم في الشمال باتوا يتحدثون عن دستور جديد يتضمن القوانين الإسلامية، يجعلنا نتأمل في سيناريو قد يكون laquo;الإنقاذيونraquo; بدأوا رسم خطوطه العريضة والبدائل اللاحقة في مرحلة ما بعد 9 يناير (كانون الثاني) 2011. وتلك من البدائل إلى جانب الاحتمال الوارد بانبعاث نزعة التوحد المصري - السوداني العصية على التنفيذ في حال كان laquo;الإنقاذيونraquo; سيعتمدون تطبيق القوانين الإسلامية بينما مصر لا تتحمل التوجه الإخواني الذي يرى أن laquo;الإسلام هو الحلraquo;.

laquo;العم سامraquo; جاهز وبتشجيع من الأوروبيين لتغيير في السودان، كي لا تصبح حال السودان المنزوع الجنوب مثل حال اليمن الشمالي الذي استعاد جنوبه بقوة السلاح. ولأن الاستعادة كانت على هذا النحو فإن جنوبيي اليمن يحاولون التمثُّل بجنوبيي السودان laquo;المحظوظينraquo; بالدعم الأميركي - الأوروبي لهم خصوصا بعدما بدأ يلوح في الأفق احتمال نشوء الرئاسة الدائمة للرئيس علي عبد الله صالح عوض تضييع الوقت في التمديد ولاية بعد ولاية. ويقضي التعديل الذي وافقت عليه الكتلة ذات المائة وسبعين نائبا بخفض مدة ولاية الرئيس من سبع إلى خمس سنوات.. ولكن مع عدم تحديد عدد الولايات باثنتين. وما هو أكثر غرابة من التعديل هي الحيثيات وخلاصتها laquo;إن المدة المحددة القائمة حاليا تُعتبر طويلة قياسا بما هو سائد في معظم البلدان الديمقراطية، كما أن التعديل يحقق فرصة أوسع لتداول السلطة سلميا. أما تحديد دورات لتداول رئاسة الجمهورية في بلد نام فإنه يعتبر قفزا على الواقعraquo;. وأما الحذاقة في المقايضة فإنها من خلال اعتماد نظام الغرفتين في البرلمان (مجلس شورى ومجلس نواب وتحديد حصة للمرأة من 44 مقعدا مع زيادة عدد النواب من 301 إلى 345. هنا لا بد من الإشارة إلى أن الرئيس عبد الله صالح كان قبل ولايته الرئاسية الحالية (التي بدأت يوم 27/9/2006) أعلن أنه لن يرشح نفسه ثم ترشَّح تحت ضغط حزبه وهو ضغط مستحب كما بدا من جانبه ولا رادَّ له.

هذا الكلام يوصلنا إلى افتراض آخر في laquo;السيناريو الإنقاذيraquo; وهو أن التسليم بالانفصال لن يكون إلى ما لا نهاية وأن الرئيس البشير سيفعل ما سبق أن فعله الرئيس علي عبد الله صالح، عندما رفض بقوة السلاح انفصال الجنوب، من دون أن يشغل باله باستفتاءات واستطلاعات رأي. وها هي النتيجة أمامنا: يمن يهتز بفعل زلازل جنوبيين وحوثيين وشيوخ قبائل مهمَّشين وكلهم عيونهم شاخصة نحو الذي يتواصل حدوثه في العراق ويمكن حدوثه في لبنان وأثمرت نذر حدوثه في تونس laquo;ثورة ياسمينraquo; توأم laquo;ثورة الأرزraquo; في لبنان.

مرة أخرى نتساءل: هل laquo;الإنقاذraquo; برئيسه والجمع الملتف حوله وبينهم من يضمر التفافا عليه سيرى أن ثلاث سنوات من دون جنوب يمكن أن تكون استراحة محارب وفرصة لالتقاط الأنفاس يهتم خلالها بإصلاح الحال في الغرب كي لا يحذو الدارفوريون حذو الجنوبيين وبحيث تصبح دارفور جبهة إقلاق للجنوب المنفصل بدل أن يستعملها هذا الأخير شوكة تدمي الخاصرة laquo;الإنقاذيةraquo;. وبعد السنوات الثلاث هذه ينقضُّ على الجنوب كانقضاض صدَّام حسين على الكويت التي صنَّفها laquo;المحافظة التاسعة عشرةraquo; فانتهى انقضاضه إلى أن المثالثة تكرست في العراق بعد انقضاض البوشية أبا ثم ابنا عليه وتحويل laquo;بعثهraquo; إلى أنقاض، لا وحدة ولا حرية ولا اشتراكية، أو يُنشِّط صولات وجولات حرب بين laquo;الدينكاraquo; الجنوبية وlaquo;المسيريةraquo; العربية كبرى قبائل السودان، تكون مثل حرب laquo;داحس والغبراءraquo;.

وهذه الاحتمالات واردة على أساس أن الجنوب هو توأم اسكندرون اللواء السوري السليب والجولان المحتل وأنهما ترابان من الواجب استعادتهما عندما تتيح الظروف والإمكانات ذلك.. وإن طال الانتظار.

خلاصة القول إن هذا الذي جرى في تونس متلازما مع الذي جرى في السودان ويحدث في شكل آخر في اليمن ونخشى أن يحدث في دول عربية أخرى وغيرها، سببه - في بعض مقتضيات حدوثه، إلى جانب الأحوال المعيشية الصعبة وسيادة الأمن على القانون وتسيُّد مجتمع العائلة وروافدها على سائر بني الوطن - هو تزايُد حدة الضجر الشعبي من عدم تنوُّع الذين يحكمون خارج صيغة التمديد مرتين فقط للرئيس والتي لخَّصها سياسي يمني خير تلخيص بقوله إن ذلك هو laquo;نزْع عدَّاد الرئاسة كما نزْع عدَّاد السيارةraquo;. وقصْده أن سيارة الأجرة هنا هي البلد وأن السائق هو الرئيس وأن الركاب هم الرأي العام لا يجادل الواحد منهم في كم سيدفع بذريعة أن العدَّاد معطَّل. يا لهذه الشطارة للتوانسة الذين خرجوا على ما هو سائد وأنجزوا أعجوبة التغيير بما قدَّرهم الله عليه.. وها هم يتركون للفضائيات ومن قبلها لوثائق laquo;ويكيليكسraquo; تروي الكثير عن laquo;اللي جرىraquo; وكما لو أنه قص شريط الافتتاح للذي سيجري لاحقا. والله أعلم.