الصادق المهدي

هذا الإجماع لم تفهمه الطبقة الحاكمة في مصر يومئذ بل فسروا التوجه الاستقلالي بالتآمر البريطاني، لكن الأسباب الحقيقية هي:

- إن الطبقة الحاكمة في مصر يومئذ طرحت العلاقة بالسودان على أساس السيادة المصرية عليه ملغية بذلك دور الشعب السوداني وحرية اختياره، لذلك كانت الدعوة الاستقلالية تقوم على أساس السودان للسودانيين.

- وفي مرحل لاحقة عندما تولت السلطة في السودان حكومة اتحادية منتخبة حاولت الحكومة المصرية بسلطانها العسكري التحكم في قرار الحكومة السودانية، هذا العامل مع قوة التعبئة الشعبية الاستقلالية حولت قيادة الحركة الاتحادية نحو الاستقلال.

- المداولات التي كشفت عنها الوثائق المتعلقة بالتفاوض المصري - البريطاني حول المصير السوداني تدل على أن الجانب المصري الرسمي أقام حجته على مصالح دولته، من دون أدنى اعتبار لأن في السودان شعباً له كرامة وتطلعات ومصالح وخصوصية يسفر عن حقيقتها تاريخه كله.

صحيح أن قلة من الكتاب والمفكرين المصريين انتقدوا الموقف الرسمي المصري وفهموا أسباب إجماع السودانيين على الاستقلال بصورة أصدق وأعمق، لكن الخط الإعلامي السائد لم يتجاوز التفسير الرسمي.

منذ بداية انشغالي بالهم السياسي كنت أميز بين الموقف الذي صنعته السياسات السلطانية الخاطئة والموقف الذي توجبه العوامل المصيرية الواصلة. قلت هذا بعد زيارتي لمصر بعد تخريجي في الجامعة في عام 1958.

وأثناء الحكم الاستبدادي الثاني في السودان (1969-1985) وظف الحكم السوداني العلاقة بمصر لدعم استبداده في السودان، ما جعل الموقف من مصر في السودان متأثراً بتلك العلاقة. وقد حاولنا في الحكومة الديموقراطية التي أعقبت انتفاضة نيسان (أبريل) 1985 إقامة العلاقة بمصر على أسس جديدة مبرأة من تدابير الحكومة النميرية المايوية من دون جدوى.

وفي 1975 أثناء المنفى الأول حاولت الالتحاق بالأزهر وسارت الترتيبات من الناحية الفنية بسلاسة ولكن الأمن المصري بإيعاز من الأمن السوداني أقفل ذلك الباب. وأثناء المنفى الثاني اجتهدت في مصر في فتح آفاق العلاقة بالمجتمع المدني المصري فأقمت علاقات بالأحزاب السياسية المصرية، والنقابات، والصحافة، والجامعات، والأوساط الاقتصادية بصورة غير مسبوقة من دون إغفال للعلاقة بمصر الرسمية.

وكان الفهم الذي انطلقت منه هو أن ثمة وشائج مصير مشترك بيننا أبطلت مفعولها سياسات خاطئة.

اليوم، ونحن نستعد في السودان لانفصال الجنوب، نسمع شنشنة خديوية سودانية لا تخرج في فهم أسبابه عن نسبته للكيد الأجنبي، والكيد الأجنبي لا يمكن إغفاله في كل أحوالنا لكنه لا يحقق أهدافه إلا من طريق عيوب نقع فيها فينفذ منها.

الرضا عن الذات من أوسع أبواب الضلال لأنه يخدر الضمير ويمنع التعلم من الأخطاء، لذلك صارت للنفس اللوامة قيمة معنوية خاصة، ولذلك تبارى التراث الصوفي في الربط بين محاسبة النفس والسمو الروحي كما قالوا:

وكيف ترى ليلى بعين ترى بها

سواها وما بللتها المدامع؟

وفي هذا الصدد قال عمر (ض): laquo;رحم الله امرءاً أهدى لنا عيوبناraquo;. حكمة رددها التراث الإنساني في عبارة شيخ الفلاسفة كانط بقوله: laquo;النقد أعظم وسيلة للبناء عرفها الإنسانraquo;.

نعم، الإمبريالية في السودان أسست لفصل عنصري بسياسة المناطق المقفولة التي اتبعتها، وبتأسيس التنمية الحديثة في السودان على مصلحة إنتاج القطن والبنية التحتية اللازمة له وهمشت المناطق الأخرى. لكننا منذ الاستقلال في 1956:

- لم نشخص حالة الخلل التنموي ثم نضع استراتيجية توازن تنموي بديلة.

- وضاع على البلاد 80 في المئة من حياتها المستقلة في ظل نظم استبدادية أقفلت باب الاجتهاد السياسي وأطاحت أهم مبدأين للبناء الذاتي هما: الحرية، والعدالة.

- وفي بعض نظام نوفمبر (7/11/1958)، وفي بعض نظام مايو (25/5/1969)، وفي كل عهد نظام يونيو (30/6/1989) طبق الانقلابيون أحادية ثقافية تفاعلت مع تراث الفصل العنصري والتهميش المشار إليه، واستدعت رد فعل مضاداً غذته عنصرية ثقافية ربطت بين العبودية وسواد لون البشرة.

الطرح الثقافي الأحادي بلغ مداه في أوائل التسعينات من القرن الماضي ما أدى في تشرين الأول (أكتوبر) 1993 إلى إجماع القوى السياسية الجنوبية على مطلب تقرير المصير. قبل ذلك دارت الخصوصية الجنوبية حول مطلب الحكم الذاتي الإقليمي، وحول النظام الفيديرالي، والمطالبة بأنصبة عادلة في السلطة والثروة وبالاستثناء من الأحكام الإسلامية ولم يتجاوز مطلب تقرير المصير نداءات معزولة. لكن إجماع القوى السياسية الجنوبية بلا استثناء على مطلب تقرير المصير حدث للمرة الأولى في عام 1993.

ومنذ حزيران (يونيو) 1995 قبلت الحركة السياسية السودانية المعارضة حقيقة أن قبول مبدأ تقرير المصير للجنوب هو ثمن السلام. لكن اتفاق أسمرا في حزيران 1995 ربط ذلك بترتيبات من شأنها أن تجعل الوحدة جاذبة لدى تقرير المصير، ومن شأنها تطبيق أيديولوجية ونظام حوكمة يلحق كافة أقاليم السودان بالجنوب في أمر اللامركزية، وفي عدالة توزيع السلطة والثروة.

الحزب الحاكم في السودان، ولأغراض المناورة لشق الحركة الشعبية، كان أول حزب سياسي غير جنوبي يوافق على مطلب تقرير المصير للجنوب في اتفاق فرانكفورت عام 1992.

هذا التوجه أخذ طابعاً رسمياً تعاقدياً في اتفاقيتي السلام من الداخل عام 1997.

وكان تقرير المصير من أهم بنود اتفاقية السلام المبرمة في كانون الثاني (يناير) 2005. كان اتفاق الشريكين هو الالتزام بجعل الوحدة جاذبة لدى تقرير المصير في كانون الثاني 2011.

لكن عوامل كثيرة أهمها أربعة في تجربة الأعوام الماضية جعلت الانفصال جاذباً، هي:

- بدل إقامة التشريع على المواطنة وتخصيص الأحكام ذات المحتوى الديني للمسلمين كما ينبغي، قسمت البلاد على أساس ديني في بروتوكول اتفاقية السلام الأول.

- وبدل نسبة ما يخصص للجنوب من نصيب في الثروة القومية، نسب نصيب الجنوب مناصفة لنفط الجنوب ما حفز على الانفصال للاستئثار به كله.

- شريكا الاتفاقية سارا في اتجاهين أيديولوجيين متناقضين أحدهما توجه حضاري أي إسلامي عروبي والآخر سودان جديد أي علماني أفريقاني.

- لأسباب معلومة اكتسب الحزب الحاكم في الشمال عداءً غربياً لا سيما من أميركا وحظي الجنوب بمودة خاصة.

هذه العوامل جعلت الانفصال جاذباً وغذتها مرارات تاريخية أهمها:

- تبنٍ جنوبي لحوادث آب (أغسطس) 1955 الدامية.

- نزعة انتقامية جنوبية نتيجتها الركون للعمل المسلح والاستعانة بدعم أجنبي من دون تحفظ.

هذه المواقف والممارسات الجنوبية بدورها غذت مرارات شمالية في اتجاهين:

- اتجاه انفصالي شمالي عنصري اعتبر الجنوب سرطاناً في الجسم السوداني وعبئاً ثقيلاً عليه.

- اتجاه وحدوي شمالي بحجة أن الجنوب أرض فتحها المسلمون ولا يجوز في أمرها تقرير المصير بل هو حرام. هذان التياران، ضمن عوامل أخرى، يفسران ما صار يتردد على نطاق واسع في الجنوب أنه تحت احتلال شمالي ويتطلع الى الاستقلال للتحرر من قبضته.

والحقيقة أن الجنوبيين أجمعوا في 1993 على مطلب تقرير المصير، وفي 2011 شبه أجمعوا على الانفصال. بل يحاط مولد الدولة الجنوبية الجديدة ببهجة بلا حدود، مع أن الجنوب كان موحداً مع الشمال باختيار أهله، ومنذ عام 2005 كان بحكم الأمر الواقع مستقلاً.

بهجة تقابلها بهجة قلة شمالية بالانفصال وترحيب حوالى ثلثهم به. لكن غالبية أهل الشمال حزينة لانفصال الجنوب لكنها تقبله لسببين هما: إنه يمثل إرادة الجنوبيين. وأن رفضه يجدد الحرب الأهلية.

أنا من زمرة هؤلاء ونتيجة تفكيري في الموقف تدلني على:

- أن الموقف الجنوبي الانفصالي هذا تفسره رواسب أحداث تاريخية معينة، وسلوكيات ثقافية، وسياسات إقصائية.

- لكنه ليس سداً مانعاً للعلاقة مع الشمال، ولا لرفض الإسلام والثقافة العربية، فوشائج العلاقات البشرية والاجتماعية والاقتصادية بين سكان شمال الجنوب وسكان جنوب الشمال لا تقطع، وثلث الجنوبيين مسلمون، واللغة العربية هي لغة التفاهم بين كثير من أهل الجنوب.

خياران للشمال

أمام الشمال خياران في التعامل مع انحياز الجنوب الغالب والسعيد بالانفصال.

الخيار الأول: انفعال بالحدث واعتباره صفعة معادية واللجوء الى ردها بإعلان أن الجنوب لم يكن سوى عبء على الشمال واعتــــباره قـــيداً على تحقيقنا لذاتنا، ما يوجب الانكفاء على الذات وتحقيقها الآن بعد أن انكسر القيد الجنوبي. هذا الموقف يفتح المجال واسعاً للمواجهة العدائية بين شطري السودان، ويفتح المجال واسعاً للمضار الآتية:

- استنساخ سيناريو الجنوب في ما بقى من الشمال وفي داخل الجنوب.

- فتح المجال الواسع لأعدائنا الاستراتيجيين لاستغلال التناقضات استغلالاً هداماً.

الخيار الثاني: تشخيص التصرف الجنوبي بصورة موضوعية يضعه في حجمه الحقيقي والتصرف بصورة تحتوي سلبيات الماضي وتستشرف إيجابيات المستقبل.

إن كياننا هو امتداد للرأسمال التاريخي للسودان، وهو حلقة وصل بين سوداني الشمال والجنوب عبر الحدود من أم دافوق غرباً إلى الروصيرص شرقاً، مثلما هو حلقة الوصل بين إقليمي سنار والفاشر. وكياننا يشارك إشعاعات الوعي السوداني الذي يعتبر السودان أرض رسالة منذ كرمة وكوش ومروي تجمع في حضارتها التنوع، رسالة تتفهم البعد الإنساني للإسلام والثقافة العربية فتستنهضهما في هندسة خلاقة لإدارة التنوع لا حماسة هدامة في صنع المواجهات، رسالة السودان الجسم المصغر لأفريقيا، رسالة الواصل المصيري بين شقي أفريقيا شمال وجنوب الصحراء. رسالة السودان أمية حوض النيل وعمود تشبيك دوله.

لذلك، مهما تفهمنا أسباب الانفصال ومهما تعايشنا معه، نهتز حتى النخاع لحدوثه ونجهر بأعلى صوت في إدانة العوامل التي أدت إليه:

إذا رحلت عن قوم وقد قدروا

ألا تفارقهم فالراحلون همو

إذا نحن أطلقنا العنان لعوامل حرب باردة بين دولتي السودان فسوف نقيم مسرح مساجلات عدمية تضر أطرافها وتشد إليه كل عداوات القرن الأفريقي، والبحيرات العظمى، وحوض النيل، وحوض البحر الأحمر، والبحر الأبيض المتوسط، وبحر الظلمات (الأطلسي) وراء ذلك.

ينبغي أن تعي القوى الواعية الفاعلة في السودان وأن تدرك أنها أمام خيارين بناء وهدم.

وتلغي الأحمال الذاتية والحزبية لتفهم الدرس المستفاد من انفصال جنوب السودان.

إنه درس من ثلاث شعب:

الأولى: ماهية العوامل الطاردة الكامنة وراء الانفصال لئلا يتكرر في دولة الشمال.

الثانية: احتواء أسباب التنافر بين دولتي السودان وإقامة علاقة تكاملية خاصة بينهما.

الثالثة: الوعي بآثار البعد الدولي وإتباع سياسات معه خالية من الاستعداء والاستتباع.

إن مصير جنوب السودان مسرح لصراع حضارات كبير يفتح للشمال وللجنوب خيارات كثيرة تشدهما حتماً.

سوف تواجه دولة الجنوب اختياراً تاريخياً: هل تتجه شمالاً أم جنوباً؟ هنالك عوامل تشده شمالاً وأخرى جنوباً وسوف تقرر قيادته أيهما أولى؟

العوامل الثمانية الآتية تشده شمالاً:

- النقل النهري والبري والسكة حديد.

- صناعة النفط.

- الميناء البحري.

- التمازج السكاني الضخم على طول الحدود.

- موروثات تراثية في كثير من المجالات.

- الشمال سوق لمنتجاته الاستوائية.

- البوابة الشمالية نحو العالم العربي الواعد.

- مشاركة الجنوب التاريخية في تكوين القومية السودانية منذ قادة ثورة 1924 وما بعدها والمكون الوجداني لكثير من القادة الجنوبيين الذين حملوا شعار السودان الجديد، وكثير منهم هجر الدعوة يأساً من الإصلاح داخل نظام laquo;الإنقاذraquo; لا كفراً مطلقاً بوحدة السودان على أسس عادلة.

سوف تتوقف غلبة أي الاتجاهين على: وعي وقدرات القيادة الجنوبية، والمناخ الذي يوفره الموقف الشمالي في إدارة التنوع في بلاده وإدارة العلاقات الثنائية بصورة إيجابية.

نعم، سوف يكون للموقف الجنوبي وعياً وكفاءة دور هام في ما سيحدث. نعم سيكون للعوامل الإقليمية المجاورة وللسياسات الدولية أثرها الهام.

لكن أيديولوجية الشمال، وحركته السياسية الواعية سيكون لهما النصيب الأوفر في ما سوف يحدث.

إذا تقاعس الشمال عن هذا الدور الإيجابي التاريخي واندفع في السياسات الطاردة والمصالح القصيرة النظر فإنه سيقدم بذلك أنفس هدية للعدو:

لا يبلغ الأعداء من جاهل

ما يبلغ الجاهل من نفسه!

قال تعالى: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ).

هذا ما سندعو له ونعمل من أجله إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ.

* زعيم حزب الأمة السوداني.