عبدالحميد الانصاري

بينما كانت عمليات التصويت في استفتاء مصير الجنوب السوداني تتواصل وسط مسيرات الفرح والرقص والأغاني ونحر الذبائح والتي شارك فيها 4 ملايين ناخب جنوبي وقد أصبحت النتائج محسومة، كان بعض العرب يتضاهرون بالحزن رفضاً للانفصال وتهويلاَ لما يأتي بعده، ويتهمون المخططات الخارجية بالتآمر على تقسيم السودان في مسلسل لتمزيق الدول العربية وتفتيتها إلى دويلات بهدف استدامة الهيمنة واستنزاف موارد ومقدرات المنطقة وخدمة لإسرائيل، يقولون: العراق أصبح في حكم المقسم عملياً إلى 3 أجزاء، والسودان ليس في طريقه للتقسيم للشمال والجنوب وحسب فهناك مشكلتي دارفور وشرق البلاد مما يمهد لتقسيمها إلى 4 دويلات، أما اليمن فشبح الانفصال مخيم بين الشمال والجنوب وبين الحوثيين والدولة، وهناك الحركات الانفصالية الأمازيغية في الشمال الأفريقي أما الصومال فهي مقسمة بالفعل واستقلت حماس بديلة غزة في انقلابها الدموي على السلطة، أما لبنان فإن حزب الله قد شكل دويلته التي أقوى من الدولة، قد يكون فيما يقوله هؤلاء بعض الصحة لكن المشكلة الأساسية أن هؤلاء ينشغلون بتحميل الخارج مسؤولية أوضاعنا المتردية بأكثر من مسؤولية الداخل، هؤلاء يتجاهلون جذور النزاعات العربية ويتغافلون ارهاصاتها المبكرة فالجنوبيون لم يختاروا الانفصال حباً فيه بل اضطراراً بعد معاناة ومآسي رهيبة على امتداد 5 عقود راح ضحيتها أكثر من مليوني سوداني سقطوا في حروب أهلية وحشية عبثية غير ملايين الاجئين وكلفت السودان العديد من المليارات إلى أن أدرك الطرفان أنه لا طائل من استمرار التحارب فاتفقا بعد محدثات مضنية عبر الوسيط الأمريكي عام 2005 في اتفاق laquo;نيفاشاraquo; على اعطاء الجنوبيين الحكم الذاتي لمدة 5 سنوات يقررون بعدها مصيرهم عبر إجراء استفتاء عام، لذلك لا يمكن تعليق ما يحصل اليوم من توجه الجنوبيين للانفصال على مشجب المؤامرة الدولية، فمطالب الجنوبيين بالاستقلال قديمة وليست وليدة اليوم كما لا يعقل أن هذه الملايين التي قررت الانفصال متآمرون أو هم ضحايا مؤامرة أجنبية، هؤلاء الذين ينساقون وراء أوهام التآمر الخارجي المسيطرة على عقولهم ونفوسهم ويفسرون كل حدث في الساحة بأنه من تدمير الموساد و الأعداء المتربصين بالعرب هم في الحقيقة ضحايا النفخ الإعلامي الذي يصور العالم تآمراً ضد الإسلام، فلا غرابة أن ينساق بعض المشايخ و العلماء وراء تلك الأوهام ليحشروا أنفسهم في القضية، إذ ذكرت الأنباء أن هناك 70 من علماء الدين أصدروا فتاوى بتحريم التصويت لصالح إنفصال الجنوب حفظاً لكيان السودان الموحد! لكن هذه الفتاوى ومع تقديرنا للمشايخ هي في النهاية laquo; فتاوى سياسية laquo; تثير اشكاليات مربكة ولا تحل قضية، ولعلنا نتذكر الفتاوى التي حرضت شبابنا للذهاب للعراق لمقاتلة الأمريكيين بحجة الجهاد، لقد أضرت بالعراقيين وأهدرت أرواح الآلاف من الأبرياء وأودت بزهرة شباب المسلمين أودت إلى الهلاك من غير أي هدف محقق! الإشكاليات التي تثيرها فتاوى تحريم التصويت لصالح الجنوب عديدة.
أولاً: إن المفتي يجهل حقيقة وأبعاد وتاريخ القضية التي أفتى فيها، كل معرفته أن هناك مؤامرة خارجية تستهدف المسلمين في السودان لأنها ملتزمة بتطبيق الشريعة بقيادة حكومة إسلامية، لكنه لا يدرك أن هناك تاريخاً طويلاً من الحروب الطاحنة التي قتلت وشردت الملايين واستنزفت السودان حتى أصبحت بوضعها المتردي حالياً، والسؤال الذي يجب طرحه على المفتي هنا: لماذا لا ندرأ بالانفصال الودي أخطار وكوارث الاقتتال، بل حتى الطلاق الذي هو أبغض الحلال يتعين إذا كان محققاً لحل الخلافات وقاطعاً للمشاحنات.
ثانياً: أين كانت هذه الفتاوى طوال 5 سنوات؟ لماذا لم يتطوع السادة العلماء ليذهبوا لمواجهة الرئيس السوداني ليقولوا له بحرمة هذا الاتفاق الممهد للانفصال ؟!
ثالثاً:لا معنى لمنح حق تقرير المصير إذا كان الناخبون المصوتون سيلتزمون بفتاوى التحريم لأنهم في الحقيقة، في هذه الحالة، لا يملكون حق تقرير المصير فعلاً لأنه قد تقرر سلفاً بناءً على فتوة تحرية فلماذا يذهبون للتصويت أصلاً؟!
رابعاً: كيف يتصور السادة المفتون أن الملايين الـ 4 سيلتزمون فتاواهم والغالبية منهم غير مسلمين؟ أي لا يعترفون بهم أصلاً، بل حتى المسلمين منهم في الشمال أو الجنوب لن يلتفتوا لفتاواهم لأنهم يرون مصلحتهم في النفصال درءاً لأخطار الحروب والنزاعات الدامية، ولا أدل من أن مسلمي الجنوب أكدوا أنهم مع النفصال إذ لا خشية عليهم في الجنوب حيث التسامح الديني والدستور الكافل لحرية الأديان.
خامساً: لا أدل على عدم جدية هذه الفتاوى السياسية بل عدم مصداقيتها الدينية أن الرئيس السوداني عمر البشير الحريص على تطبيق الشريعة وتنفيذ الحدود الشرعية أعرب بنفسه عن استعداد حكومته للمشاركة في احتفالات الدولة الجديدة المحتملة! بل صرح في زيارته للجنوبيين في جوبا الذين استقبلوه بالفرح والزغاريد وبلافتات تقول: مرحباً بكم في الدولة رقم 193، إذ قال: سأكون حزيناً.. لكنني سأحتفل معكم إذا اخترتم الانفصال! فإذا كان التصويت للانفصال محرماً بحسب الفتاوى الدينية فالأولى أن يكون مشاركة الرئيس السدواني في احتفالات الانفصال أشد تحريماً!
سادساً: أيهما أعظم تحريماً: انفصال غزة بالقوة الانقلابية وانفراد حماس بحكمها وتكوين دويلة هزيلة تقوم بقمع الفصائل التي تقذف المستوطنات الإسرائيلية ولا تريد أن تلتزم بالتهدئة أم انفصال جنوب السودان بالتراضي والاتفاق الودي بعد حروب كلفت السودانيين الأرواح والموارد؟! لماذا لم نسمع من السادة أهل الإفتاء المتحمسين لوحدة الكيان الإسلامي والرافضين للمشاريع الانفصالية التفكيكية باعتبار أن دولة الإسلام واحدة، لماذا لم نسمع منهم أية فتوى بتحريم ما عملته حماس في انقلابها الدموي على السلطة الفلسطينية واستقلالها بحكم غزة كدويلة انفصالية أصبحت تشكل إنقساماً فلسطينياً حاداً؟! أم أن ذلك حلال لحماس الإسلامية و رام على الجنوبيين المسيحيين؟!