محمد عمار

تتواصل الحركات الاحتجاجية والمظاهرات في تونس ولا مطلب سوى خلع النظام السابق من جذوره. المظاهرات يقودها المواطنون في مختلف محافظات الجمهورية، يطردون الولاة والوزراء وكتاب الدولة ومديرو الشركات الكبرى ومديرو البنوك. يفشون أسراراً داخلية لكل المؤسسات. أرض عليسة وحنبعل وابن خلدون والشابي تعيش فوضى. احتجاجات متواصلة دون قائد فما ينطبق على المؤسسة الصغيرة ينطبق على الدولة بأسرها. يا شعب تونس الرسالة وصلت إلى كل العالم فلا تفسدوها. إن ممارسة الديمقراطية حاليا يتطلب قليلاً من التريث والمطالب سيستجاب عليها لاحقاً. كان بودي أن أعيش الثورة من داخلها لكنني متحسر وأتابعها عن بعد عبر كل وسائل الاتصال المتاحة. الأخبار تتوالى والغرائب أيضاً، فما حصل في الفترة الأخيرة يدعو إلى الدهشة والغرابة والانبهار وفهم مختلف للديمقراطية في تونس، وسألخص أهم ما حصل إلى حد الآن كالتالي:
%25 من الشعب موجود على laquo;الفيس بوكraquo; يومياً.
رئيس دولة يهرب من بلاده بعد 23 سنة.
رئيس دولة يحكم البلاد 23 ساعة.
3 رؤساء يحكمون نفس البلد في 24 ساعة.
سيارات إسعاف تقتل المواطنين.
الشرطة تسرق البلاد.
مواطنون يحمون أحياءهم.
مواطنون يتأكدون من هوية الشرطة.
شباب يقدمون تأشيرة العبور لمرتدي الزي الأمني.
وزير أول يبكي مباشرة على قناة تلفزيونية.
مدون يخرج من السجن إلى حقيبة وزارية.
إقصاء قاض من حصة تلفزيونية تبث مباشرة بطلب من الشعب.
غلق قناة تلفزيونية لساعات بطلب من الشعب.
مظاهرات للبوليس ضد الدولة كأول حادثة في العالم.
الشرطة تطالب بنقابة، وهي التي يعينها النظام.
محام ينظم حركة المرور نتيجة إضراب أعوان الشرطة.
موظفون يطردون مديريهم من الشركات والبنوك.
تلاميذ يطالبون بالعودة إلى مقاعد الدراسة.
موظفو وزارة يطردون وزيرهم ليعود إلى بيته ماشياً دون استعمال سيارة.
مواطنون يطردون ولاة ليعودوا أدراجهم.
لَعمري إنني لم أرَ كل هذه السلوكيات والتصرفات تحصل في بلد آخر غير تونس، ربما هناك العديد من المظلومين الآن -وهم كثر- يريدون حقوقهم ويعتبرون أن هذه الفرصة هي الأفضل لهم لاسترداد ما افتُكَّ منهم غصباً، لكن هناك العديد من التونسيين يريدون امتطاء الحصان وهو يسير وهم ليسوا من laquo;الخيالةraquo;.. ويريدون ركوب الأحداث والبحث عن مناصب. هذا هو الحال حاليا في تونس الخضراء، لا اتحاد العمال يقود الثورة ولا أحزاب المعارضة التي دخلت ضمن الحكومة المؤقتة وأضحت أكثر من التجمعيّين أنفسهم تقود الثورة، ولا الأحزاب الكرتونية التي فضلت الاختباء وعدم الظهور خوفا على نفسها.
إن تونس تعيش منعرجا خطيرا، وكل الأطراف الموجودة حاليا تبحث عن مصلحتها الشخصية باستثناء البعض، وكل يغني على ليلاه.. في حين يستغل كثير من المنتمين للحزب الحاكم، ومن له علاقة به، الظروف الحالية لإحراق كل الوثائق التي تدينهم. لا نعرف حاليا أمام هذه الفوضى، عامل الوقت في صالح من؟ ربما يكون الوقت في صالح الجيش الوطني الذي يحظى بثقة شعبية كبيرة وربما يكون الجنرال رشيد عمار الرجل المناسب للمرحلة لتهدئة الأمور وإعادة الأمن إلى مكانه الطبيعي في انتظار انتخابات شفافة ونزيهة، ولا خوف على استفراد هذا الجنرال بالحكم لأنه يبلغ من العمر 64 عاما والدستور القديم إذا عاد إلى حالته الطبيعية قبل تعديله الأخير على مقاس الرئيس المخلوع يضع 70 سنة كأقصى حد للترشح إلى الرئاسة.
ما يمكن الإشارة إليه، أن تونس أمام فرصة تاريخية لتطبيق الديمقراطية، وفي حالة حصول ذلك ستتربع تونس الغنية جدا برأسمالها البشري -كما ذكر رئيس الوزراء الأسبق محمد مزالي- على عرش أقوى الاقتصادات العربية لأن البنية التحتية جاهزة. إن عودة رؤوس الأموال المنهوبة والمقدرة بأكثر من 12 مليار يورو ستغطي عجز الدين الحكومي العام وتساهم في إعادة ومواصلة البناء.. لكن في حقيقة الأمر فإن البطالة ستتواصل بشكل ظرفي خلال العامين القادمين لأن عدداً من القطاعات ستتضرر بشكل أو بآخر خاصة القطاع السياحي الذي يشغل في تونس أكثر من 380 ألف عامل بصفة مباشرة، إضافة إلى نفس العدد بطريق غير مباشرة في المطاعم والصناعات التقليدية وغيرها من المهن الحرة المرتبطة بهذا المجال، علاوة على قطاعات أخرى مثل النسيج والصناعات المختلفة. ومع ذلك فإن الصورة تظل تفاؤلية خلال الأمد القريب، لأنه تمت الإطاحة بغطرسة عائلة الرئيس المخلوع والتي استحوذت على نحو %40 من الاقتصاد المحلي خاصة السوق السوداء التي سيتراجع نشاطها في المرحلة القادمة لفائدة المنتجات المحلية، وبالتالي توفير فرص عمل إضافية وموارد ضريبية جديدة كانت غير موجودة في العهد السابق.
نظام برلماني
إن المتتبع للنظام البرلماني في عدد من دول العالم على غرار ألمانيا واليابان خاصة تركيا، يلاحظ سريعاً أن هذه الدول استطاعت أن تخلق لنفسها نموذجاً اقتصادياً فريداً من نوعه ومناخاً ديمقراطياً مصدره وملهمه الشعب. وانطلاقاً من ذلك فإن تونس أمام فرصة تاريخية للقطيعة مع نظام الحزب الواحد والحكم الأبدي الواحد. ومع ذلك، فإن هذا السيناريو سيتطلب وقتاً ليس بالقصير حتى يتسنى إقامة انتخابات ديمقراطية نزيهة تبدأ من القاعدة من خلال البلديات ثم المنظمات المهنية (اتحاد المزارعين واتحاد الصناعة والتجارة واتحاد العمال) للوصول إلى عصارة خيارات الشعب التي ستترشح إلى البرلمان، لتتدخل التكتلات الشعبية والحزبية لترشيح رئيس مجلس الوزراء والذي سيجد نفسه مضطراً إلى إشراك كل الأطياف السياسية الموجودة في الدولة، ومنها حزب النهضة الإسلامي الذي يجد نفسه غير مرحب به حاليا، إلى جانب الأحزاب المحظورة الأخرى. فهل سنشاهد انتخابات تونسية ديمقراطية دون تدخل أجنبي خاصة من فرنسا وأميركا خاصة أن تونس ليست بلداً بترولياً ولا مطامع فيها، أم أن الحلم سيضيع والتاريخ سيعيد نفسه؟