خليل علي حيدر

أعطى حزب quot;التحريرquot; للفكر، وبخاصة quot;الأفكار الإسلاميةquot;، مركزاً محورياً في عودة الإسلام والخلافة. ورسم الحزب لنفسه، كما تصوّر، طريق الدعوة النبوية نفسها مقتفياً مراحلها. ومن هذه المراحل تهيئة ناس أكفاء مؤمنين مضحين، وتهيئة الأمة لتقبل تطبيق الدعوة، لتبدأ بعد ذلك مرحلة إقامة الدولة الإسلامية. (الحركات الإسلامية، ملف مجلة الشراع ص 170). ويرى تيّار quot;الإخوان المسلمينquot; وغيرهم أن منطلقات الحزب منذ البداية كانت خاطئة!

quot;إن حزب التحرير قد أصاب حينما اتجه بداية إلى الإنسان، ولكنه أخطأ بعد ذلك في كل شيء: أخطأ في الاعتماد على الفكر سبيلاً وحيداً لإيجاد الإنسان المسلم، وفي انتهاج التثقيف طريقاً لإيجاد المجتمع والدولة الإسلاميين، وفي اتباع الصراع الفكري وسيلة وحيدة لقلب المجتمع. وقد عانى بسبب ذلك انحرافاً فكرياً أبعده عن ثلثي الإسلام، إن لم نقل عن كل الإسلامquot;.

اكتنف الغموض مسيرة حزب quot;التحريرquot;، وبقيت مواقفه عرضة لكثير من التأويلات حتى قال البعض: quot;إنّ هذا الحزب أوجدته إحدى الدول الكبرى في الخمسينيات حتى يستمر وجودها في هذه المنطقة، وقيل الكثير حول شخصيات الحزب، حتى إن بعضهم ذهب في اتهاماته بأن مؤسس الحزب تقي الدين النبهاني شخصية خيالية غير موجودةquot;.

ومن أبرز مفكري quot;الإخوانquot; الذين وجهوا انتقادات شاملة لحزب التحرير زعيم quot;الجماعة الإسلاميةquot; في لبنان، الداعية quot;فتحي يكنquot; في كتابه quot;مشكلات الدعوة والداعيةquot;، حيث يندد ببعض تصرفات التحريريين، إذ quot;انحصر نشاط الحزب في رصد العناصر الإسلامية العاملة دون غيرها، محاولاً امتصاصها عن طريق تشكيكها بانحراف خط سير الجماعة التي تنتسب إليها، وبضعف أفكارها وتباين هذه الأفكار وعدم وحدتها، وأخيراً بعدم نجاحها في إقامة الدولة الإسلامية خلال السنوات الطويلة من حياتها، ثم بايهام هذه العناصر بقوة الحزب وقدرته السحرية على إقامة الدولة بسرعة، حتى ليخيل إلى بعضهم أنها قامت فعلاً. ويقول أصحاب هذا الرأي إن النتائج النفسية المقصودة لهذا الأسلوب الذي يتبعه حزب quot;التحريرquot; هو تدمير نفسية هؤلاء الذين يجتذبهم الحزب لفترة من الزمن، ثم لا يلبث أن يلفظهم إما عناصر شوهاء موتورة، ضررها للإسلام أكبر من نفعها أو عناصر مَسِيخة معدومة الإنتاج مبلبلة التفكير صدمها الواقع المرير بعد الأمل العريضquot;.

إن الذي أسس الحزب هو الشيخ تقي الدين النبهاني، كما هو معروف، ويقول ملف مجلة الشراع المشار إليه إن عملية التأسيس هذه quot;لم تكن عملية جمعية أو حزباً مبنياً على تجمع وتوافق مصالح، بل كان حزباً مبدئياً عمل له مؤسس الحزب، فاتصل بمن حوله من الناس، فمن استجاب له شُكلت منه الحلقة الأولى، ثم ما لبثت هذه الحلقة أن تنامت وانتشرت في جميع بلاد المسلمين العربيةquot;. ومن المعلومات الحزبية الداخلية القليلة التي ظهرت في الكتاب المشار إليه quot;الحركات الإسلامية في لبنانquot;، والذي نشرته مجلة quot;الشراعquot; كملف في بداية ثمانينيات القرن العشرين دون تاريخ ربما 1985، أن الحزب يقوم على ثلاثة أجهزة: الجهاز الأول هو quot;لجنة القيادةquot;، وهذه ليس لها مكان تستقر فيه، وتتواجد حيثما يقتضي وجودها. أما الجهاز الثاني فهو quot;لجنة الولايةquot;، فلكل ولاية أو قطر أعضاء ينتخبهم أفراد الحزب، وعددهم من خمسة إلى ثمانية، ممثلين عنهم، لرعاية شؤون الحزب في هذه الولاية، وهي لجنة مرتبطة ارتباطاً كاملاً بالقيادة. ومهمتها رعاية اللجان التحتية، والاتصال بالوسط السياسي في القطر الذي تعيش فيه. أما الجهاز الثالث، فمكون من اللجان المحلية، وهي لجان مؤلفة من ثلاثة إلى خمسة أشخاص. وهذه اللجنة تتواجد في المدن الكبيرة والأحياء ومهمتها العمل على رعاية أعضاء الحزب وكسب أعضاء للحزب وتدريسهم ثقافة الحزب.

quot;هذا هو التسلسل الهرمي لحزب التحرير الإسلامي: لجنة قيادة، لجنة ولاية، ولجان محليةquot;. وأضاف القيادي الذي كان يجيب عن أسئلة المجلة إن اللجان المحلية وحتى الفرد الواحد quot;يستطيع محاسبة القيادة، لأن للحزب قانوناً إدارياً يحدد صلاحية كل جهة عن مسؤوليتها، ويتضمن هذا القانون حق الفرد في محاسبة القيادةquot;.

تَـمَّيزَ quot;حزب التحريرquot; بين جماعات الإسلام السياسي بقبوله غير quot;أهل السنةquot; من أتباع المذاهب الأخرى في العالم الإسلامي. ويصرح مسؤول من الحزب في كتاب الحركات الإسلامية - ملف quot;الشراعquot; حول المذهبية بما يلي: quot;حزب التحرير يتخطى كل ما هو إقليمي وقومي ووطني... يتخطى كل شيء. الحزب له أساس ينطلق منه هو العقيدة، من آمن بها فهو أحد أعضائه بغض النظر عن الإقليم الذي ينتمي له والقومية التي ينتمي إليها، ولا فرق أن يكون رئيسه كردياً أو فارسياً أو عربياً أو هاشمياً أو غيره. ولا فرق أن يكون جعفرياً أو حنبلياً أو شافعياًquot;. وإذا كان مؤسس الحزب، تقي الدين النبهاني، فلسطينياً، فإن من جاء بعده، أي الشيخ عبدالقديم زلوم، كان من أصل كردي.

غير أن الباحثين فيما أعلم، لم يدرسوا حتى الآن الجذور المذهبية لأفكار واجتهادات حزب quot;التحريرquot;. والواضح على كتب ووثائق الحزب، الالتزام بالمذاهب والمصادر السُنية. ورغم ادعاء الحزب عدم الالتفات إلى الفوارق الشيعية - السنية، فإننا لا نلاحظ مواقف فكرية وفقهية ومذهبية واضحة في هذا المجال. وقد دخل باحث شيعي معروف بآرائه النقدية للمذهب الشيعي نفسه، في حوار مع حزب quot;التحريرquot;، وقال في كتاب له إن الحزب quot;يقع في تناقضات كبيرة، وهو يحاول أن يرسم ملامح النظام السياسي quot;الإسلاميquot; أي quot;الخلافةquot;، وذلك لاعتماده على تراث الفقهاء الدستوريين السُّنة السابقين وتجارب أنظمة الخلافة التاريخيةquot;. ويضيف الباحث نفسه، إن حزب التحرير quot;يفتح باباً واسعاً على الفتنة والحروب الداخلية في العالم الإسلامي، تحت شعار فرض الخلافة وأخذ الطاعة للخليفة الذي لم ينتخبه سوى حفنة صغيرة من المسلمين في بلد صغير في صقع من أصقاع الأرض، ويكرس الفتنة بدعوته لقتال أي مدع آخر للخلافة. وما يزيد الأمر خطورة هو إيمان الحزب بحق جميع المسلمين في منصب الخليفة، حتى وإن كانوا فجاراً فاسقين، وهو ما يفتح الطريق أمام أية مجموعة متآمرة فاسقة وفاجرة للقيام بانقلاب عسكري ونصب خليفة ومقاتلة بقية المسلمينquot;. ويأخذ الباحث على حزب quot;التحريرquot; موقفه المضطرب من ضرورة قُرشية الخليفة، وموافقته على quot;الحكم التقليديquot; السُني الذي يحرم الخلافة على النساء ويشترط الذكورةquot;. ومن هُنا، يقول الباحث أحمد الكاتب، إلى جانب ملاحظات أخرى له، quot;لن يستطيع حزب التحرير الخروج من شباك الفكر الاستبداديquot;.

ويتسلط حزب quot;التحريرquot; على حياة أعضائه الفكرية بشكل محكم. quot;فشرط الاستمرار لبقاء العضو في الحزب أن لا يقول قولاً ولا يتخذ موقفاً يخالف موقف الحزب، وإذا تبنى العضو قولاً غير قول الحزب فإنه يطرد من الحزب، ويُـمنع على أي من أعضاء الحزب تأليف الكتب أو إصدار مجلة، أو أن يكتب مقالاً أو يُناقش أحداً مناقشة بأي رأي يخالف آراء الحزبquot;.

هل سيخضع حزب quot;التحريرquot; لظروف العالم الجديدة بعد انتهاء المعسكرات والحروب الباردة والهيمنة البريطانية - الأميركية، وبعد كل هذه التطورات في العالم العربي والإسلامي وفي الحركات الإسلامية؟ هل سيتغير فكراً وتنظيماً، أم أن أي تغير من هذا القبيل سيفككه من الداخل؟ لننتظر ونرى!