خلف الحربي

مثلما خرج الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي ليقول لشعبه الثائر: laquo;الآن فهمتكمraquo; خرج الرئيس المصري محمد حسني مبارك ليقول للجموع التي ملأت الشوارع احتجاجا: laquo;أعي تطلعات الشعب المصريraquo;، لا أعرف حقا لماذا يعاني الحكام بطئاً في الفهم، حيث يبقون لعقود من الزمان يتجاهلون الشارع ويتعاملون معه باحتقار شديد حتى تأتي ساعة الحقيقة، وتقترب أمواج الغضب من قصورهم، فيخرجون في خطابات متلفزة ليبشروا بالديمقراطية وحقوق الإنسان، ويظهروا احتراما عجيبا لحق الإنسان في الاحتجاج والتظاهر.
لقد كشفت أحداث تونس وأحداث مصر أن التغيير الحقيقي لا يصنعه قادة الجيش، ولا قادة التنظيمات الأصولية، ولا ضباط المباحث، ولا أحزاب المعارضة الصورية، بل يصنعه الشباب العاطلون المهمشون الذين يتواصلون عبر laquo;التويترraquo; وlaquo;الفيس بوكraquo;، ولا تعنيهم كل هذه الأصنام التي فرضت هيبتها الحديدية على آبائهم وكتمت أنفاس هؤلاء الشباب منذ لحظة ولادتهم، وجاء اليوم الذي يكسرون فيه قيود الوهم ويهزؤون بالعسكر الذين لم يدافعوا في يوم من الأيام عن كرامة الأوطان قدر دفاعهم عن الكراسي، ويواجهون رجال الشرطة الذين أفنوا حياتهم وهم يدافعون عن اللصوص، ويسخرون من وسائل الإعلام التي لم تستطع الاستمرار في تزييف الحقيقة بعد ثورة الاتصالات.
لقد عاش الحكام العرب عقودا متواصلة وهم يحاربون الديمقراطية ويعتقدون أنها الشيء الوحيد الذي يمكن أن يهدد عروشهم، وها هم اليوم يحاولون التشبث بقشتها بعد أن غرقوا في طوفان الشوارع الغاضبة, ولأنهم لا يفهمون شباب اليوم ولا يتخيلون أن هؤلاء الصغار العاطلين يمكن أن يهدموا أنظمتهم الحديدية على رؤوسهم فإن كل واحد منهم ينتظر حتى يعيش مفاجأته الخاصة، فيخرج ليخطب في الجموع الثائرة: laquo;الآن فهمتكمraquo;.
فيما مضى كانت العبارة المفضلة للحكام العرب: laquo;سنضرب بيد من حديدraquo;، واليوم أصبحت العبارة المفضلة: laquo;الآن فهمتكمraquo;، حيث يقدمون فجأة عروضا سخية تتضمن توصيل الديمقراطية إلى المنازل، وتكفل حرية التعبير، بل إنهم أصبحوا يرددون مصطلح laquo;حقوق الإنسانraquo; أكثر مما يردده أعضاء منظمة العفو الدولية.
ومن المثير حقا أن بعض الرؤساء العرب laquo;لا يفهمونraquo; إلا في اللحظة التي لا ينفع فيها الفهم والأفهام, ولو كانوا يملكون الفهم لأدركوا أن الديمقراطية هي طريقهم الوحيد للحفاظ على وجودهم أو الخروج من المشهد السياسي بشكل مشرف بدلا من أن يدفعهم الشباب الثائر بعيدا عن قصورهم الفاخرة، وحينها لن يفيدهم الفهم المتأخر، ولن تنقذهم طواقم الفاسدين التي غيبتهم عن الحقيقة، وحجبت عنهم صور الغضب المتنامي في عيون الشباب, ترى من الحاكم العربي الذي سيخرج علينا بعد أسبوعين ليقول: laquo;الآن فهمتكمraquo;؟