وحيد عبدالمجيد

يعود الملف العراقي إلى صدارة أولويات السياسة الخارجية الأميركية مجدداً بعد أن كان قد ابتعد عن واجهة القضايا الأكثر إلحاحاً في العامين الأخيرين. وربما يصبح هذا الملف عبئاً على إدارة أوباما في الأسابيع المقبلة بعد أن أزيح عن كاهلها منذ سحب معظم القوات الأميركية في العراق عام 2009 بعيد توقيع الاتفاقية الأمنية بين واشنطن وبغداد في العام السابق عليه.


فقد اقترب الموعد الذي حددته هذه الاتفاقية لإكمال انسحاب القوات الأميركية من العراق، وهو نهاية عام 2011. وبدأ الجدل حول إمكان تحقيق ذلك، أو بالأحرى عن واقعيته في الوقت الذي تثار أسئلة حول مدى قدرة القوات العراقية على حفظ الأمن وحماية حدود البلاد، وأخرى بشأن أثر التحولات التي تشهدها المنطقة على الوضع في العراق، وخصوصا إذا ما طال أمد الأزمة الداخلية السورية.
وفيما تختلف الكتل السياسية العراقية بشأن انسحاب القوات الأميركية الباقية أو بقائها، وتتناقض مواقفها بين التهديد بإعلان حرب عليها إذا بقت (التيار الصدري) والتحذير من احتمال نشوب حرب داخلية إذا انسحبت (معظم القوى الكردية)، تبدو إدارة أوباما في حال مراوحة بين الالتزام بالاتفاقية بحذافيرها وسحب القوات الباقية كلها أو إبقاء عدد محدود منها لا يتجاوز ثلاثة آلاف وقد يقل عن ذلك في حال طلبت الحكومة العراقية ذلك.

غير أن هذا الموقف يلقى معارضة من جانب بعض الاستراتيجيين والسياسيين الأميركيين، بمن فيهم بعض أعضاء الكونجرس، تأسيساً على أنه يمثل مخاطرة لأن ثلاثة آلاف عنصرعسكري معظمهم من المستشارين لا يمكنهم المحافظة على الاستقرار في العراق. ويرى هؤلاء أن المصلحة الأميركية والعراقية تتطلب بقاء قوة يتراوح عددها بين عشرة آلاف وعشرين ألفاً من أصل 46 ألفاً هي مجمل القوات الأميركية الباقية الآن.

فقبل أن ينتهي عام 2009 كان الوجود العسكري الأميركي قد تقلص إلى ستة ألوية تتركز مهمتها في تدريب القوات الأمنية العراقية وتأهيلها وتطوير خطط عملها، إلى جانب quot;مهمات بناء الثقةquot; في المناطق الحساسة بالنسبة للعراقيين حيث ينضم بعضهم إلى وحدات من الجيش في دوريات مشتركة أو إلى قوة أمنية في حواجز للتفتيش وما إلى ذلك.

ويرى معارضو إبقاء قوة محدودة أنه لن يكون بإمكانها أداء مثل هذه المهمات أو حتى القيام بالمهمة التدريبية كاملة، الأمر الذي قد يزيد فاعلية الجماعات المسلحة التي لاتزال موجودة وإن ضعفت مقارنة بما كانت عليه سابقاً، ويشجع إيران على محاولة تحويل العراق إلى منطقة نفوذ تابعة لها.

ولذلك ربما يكون قرار إدارة أوباما النهائي بشأن الانسحاب متوقفا على محددين رئيسيين؛ هما احتمالات تطور الوضع الداخلي، وتقدير اتجاهات السياسة الإيرانية. غير أن المحدد الأهم هو أن تطلب الحكومة العراقية رسميا إما تعديل اتفاقية 2008 أو توقيع اتفاقية أخرى تنص على الاستعانة بقوات أميركية محدودة لمهمات معينة وفترة محددة. ويتوقف مثل هذا الطلب على حدوث توافق بين الكتل السياسية العراقية.

فلن يكون سهلاً بالنسبة لإدارة أوباما إبقاء قواتها في العراق بحلول مطلع العام المقبل بدون طلب رسمي. وقد لا يكون بإمكان رئيس الحكومة العراقية تقديم مثل هذا الطلب بدون وجود اتفاق داخلي واسع عليه والتزام من يعارضه بعدم حمل السلاح ضد القوات التي ستبقى.

وفي هذه الحال، سيكون الموقف الأميركي النهائي مرتبطاً بتقدير ما يمكن أن يطرأ على الوضع الداخلي واستشراف ما قد تفعله إيران في حالة الانسحاب الكامل وخصوصاً إذا استحال إيجاد حل ما للأزمة السورية وبات نظام الأسد مهدداً بالسقوط أو سقط فعلاً. ولأن ذينك المحددين (الوضع الداخلي العراقي والسياسة الإيرانية تجاهه) ليسا ثابتين، فربما يظل أثرهما على عملية صنع القرار الأميركي النهائي بشأن الانسحاب الكامل أو شبه الكامل من العراق مرتبطاً بالتطورات في كل منهما حتى آخر الشهر المقبل.

فعلى المستوى الداخلي، يبدو أن انخفاض حدة العنف في العراق في الفترة الأخيرة، يعَّزز الاتجاه إلى سحب ما بقي من قوات أميركية أو إبقاء جزء محدود منها لا يتجاوز ثلاثة آلاف وقد يقل عن ذلك إذا صح ما نسبته قناة quot;فوكس نيوزquot; وصحيفة quot;نيوز تايمزquot;، في أول سبتمبر الماضي، لوزير الدفاع الأميركي.

غير أن معارضي هذا التوجه يحذرون من سوء تقدير العنف الذي لا يزال كامنا في العراق والمبالغة في توقع استمرار انخفاض معدلاته لسببين: أولهما ركود الوضع السياسي العراقي وعجز الحكومة الائتلافية الراهنة عن تحقيق الحد الأدنى من التقدم الذي كان متوقعا، وحدّة الخصومة بين الأطراف السياسية الأساسية إلى حد أن زعيمي أكبرهما (دولة القانون والقائمة العراقية) متخاصمان لا يتبادلان الكلام.

ويعود السبب الثاني للتحذير من المبالغة في التعويل على قدرات القوات العراقية وحدها إلى أن تنظيم quot;القاعدةquot; في العراق لا يزال متماسكاً رغم الضربات القوية التي تعرض لها. وهذا الخطر الكامن يفرض بقاء قوة لا تقل عن عشرة آلاف عنصر لكي تكون قادرة على معاونة القوات العراقية ميدانيا -وليس فقط تدريبياً- في أوقات تصاعد العنف أو اشتداد حدته. ويرى أصحاب هذا التوجه أن قوة من ثلاثة آلاف عنصر لا تكفي حتى لإيجاد حد أدنى من الردع.

أما المحدد الإيراني للقرار الأميركي النهائي بشأن العراق فيتعلق بمخاوف معارضي الانسحاب الكامل أو شبه الكامل من أن يؤدي ذلك إلى جعل المالكي أسيراً لطهران وسياستها الإقليمية، وإضعاف قدرته على المحافظة على التوازن الذي يحرص عليه بين إيران والولايات المتحدة اللتين دعمتا بقاءه رئيساً للوزراء عقب الانتخابات الأخيرة رغم أن كتلته quot;دولة القانونquot; حلت ثانية بعد كتلة quot;القائمة العراقيةquot;.

وتزداد أهمية الدور الإيراني في العراق على ضوء الأزمة في سوريا. فهذه أزمة إيرانية بمقدار ما هي سورية، لذلك مارست طهران ضغوطاً قوية على حكومة المالكي لدعم سوريا اقتصاديا. ولا يستبعد الأميركيون المطالبون بإبقاء وجود عسكري فاعل في العراق أن تشدد طهران قبضتها عليه في حال الانسحاب الكامل أو شبه الكامل.

وهكذا، ورغم أن موعد هذا الانسحاب بات قريباً جداً، فربما يظل القرار الأميركي النهائي بشأنه متوقفاً على تطورات الوضع الداخلي في العراق والسياسة الإيرانية تجاهه وتأثير الأزمة السورية عليها.