بول بريمر

مات القذافي، وربما تستحق إدارة أوباما بعض الإشادة على مساهمتها في إحداث تغيير للنظام في ليبيا. وقد جاء مقتل الدكتاتور بعد ثمانية أشهر على بدء العمليات العسكرية هناك، وهي الفترة الزمنية نفسها التي استغرقناها لرصد صدام حسين بعد أن حررت القوات الأميركية بغداد في 2003. وعندما أبلغني رئيس محطة quot;سي آي إيهquot; في الساعة الثانية من صباح الثالث عشر من ديسمبر 2003 بأن قواتنا ألقت القبض على صدام، علمتُ أننا قطعنا شوطاً مهماً.

والواقع أن أوجه الشبه بين الحالتين تبعث على الذهول. فعلى مدى عقود كان الدكتاتوران يصنفان في خانة الإرهابيين من قبل الإدارات الأميركية، جمهورية وديمقراطية. وعلى مدى عقود، قام كل من الرجلين بقمع مواطنيه بوحشية، مستعملا في أحيان كثيرة أساليب خبيثة لتأجيج الانقسامات الطائفية والقبلية. وعلاوة على ذلك، فقد عثر على القذافي في أنبوب مجار، بينما ألقي القبض على صدام في حفرة، وهذا مصير الطغاة!


والواقع أن القبض على دكتاتور أو مقتله يمكن أن يغلق فصلا طويلا من الطغيان والاستبداد؛ غير أن دعم وتقوية مثل هذا التغيير السياسي الضخم لم يكن سهلاً في العراق، ولن يكون سهلاً في ليبيا أيضاً. وتشير تجربة العراق إلى أن النجاح يعتمد على معالجة ثلاثة مواضيع ملحة وعاجلة خلال هذه الفترة الانتقالية:
1- يجب أن يؤمن السكان بأن التغيير السياسي حقيقي ودائم: حينما كان صدام طليقا، كان لدى معظم العراقيين، وعلى غرار معظم الليبيين ربما، خوف صامت من إمكانية أن يعود الدكتاتور إلى السلطة. وكانوا يعرفون من التجربة المرة أنه لو حدث ذلك، فسيكون ثمة ثمن باهظ يجب دفعه بالنسبة لأي شخص تعاون مع تنحيته. وقد أخبرنا العديدُ من العراقيين بأنه حتى بعد القبض على صدام، فإنهم كانوا قلقين -وأحياناً يأملون- أن يعود وحزبه (البعث). وفقط بعد إعدامه، استطاع العراقيون التأكد من أنه وعائلته قد انتهوا ورحلوا إلى غير رجعة. وبالمقابل، يعرف الليبيون الآن أن طاغيتهم لن يعود، وإن كان أبناؤه وبعض العناصر في قواته الأمنية مازالوا طلقاء ويمكن أن يشكلوا نقطة تعبئة ممكنة لأنصار القذافي.

2- على أحد أن يوفر الأمن: بعد رحيل دكتاتور ما، يعد ضمان الأمن للسكان أهم أولوية بالنسبة لأي حكومة. وفي العراق، كان لاعتقال صدام تأثيران إيجابيان فوريان؛ ففي غضون أسبوعين تلقيتُ وفريقي رسائل من أعضاء في المقاومة تشير إلى أنهم مهتمون بوقف حركة التمرد. ورغم أن الإشارات كانت متضاربة ومترددة، ولم يكن من الواضح أي جهة يمثل باعثوها، فإني قررت الرد عليها إيجابيا. وللأسف لم يتمخض عن انفتاحي أي شيء. لكن خلال الشهرين اللذين أعقبا الاعتقال، انخفضت الهجمات على قوات التحالف بشكل كبير جداً.

غير أن القبض على الدكتاتور لم يحل مشاكل العراق الأمنية؛ ذلك أن التأثير الإيجابي لاعتقاله سرعان ما غطت عليه انتفاضة كبرى للسنة في محافظة الأنبار، وهجوم شيعي متزامن على عواصم ثلاث محافظات في جنوب العراق. في ذلك الوقت، كانت الولايات المتحدة تفتقر إلى الاستراتيجية المناسبة والقوات الكافية للرد بفعالية على هذه التحديات، لكنه وضع صُحح لاحقا بواسطة قرار الزيادة في عديد القوات هناك عام 2007.

وفي ليبيا، هناك ما يدعو للقلق بشأن الوضع الأمني، وذلك على اعتبار أن عدداً كبيراً من المليشيات تنشط في أجزاء مختلفة من البلاد. ومثلما فعل صدام في العراق، فإن القذافي كان حريصاً على التلاعب بالانقسامات الجغرافية والقبلية من أجل إضعاف أي معارضة وإفقادها توازنها. والواقع أنه في العديد من الحالات، تعكس هذه المليشيات الليبية الولاءات القبلية، كما أن هناك خيوطاً قوية للتطرف الإسلامي منسوجة في بعض المجموعات. فمن ستكون لديه السلطة والقدرة لتجريدها من السلاح؟ الواقع أنه ما لم يوضع نظام لتسريح وتفكيك المقاتلين، فستظهر المشاكل والاضطرابات.

3- يجب إقامة نظام سياسي جديد: وهذا لا يتطلب تجريد معظم المقاتلين من أسلحتهم فقط، وإنما كذلك خطة لتحديد إطار سياسي يبنى عليه نوع من الحكم التمثيلي.

العراقيون حصلوا على هذا الجزء بسرعة. ففي فاتح مارس 2004، وبعد أقل من عام على تحرير بغداد، اتفق العراق على دستور حديث يعد من أكثر الدساتير تقدماً في الشرق الأوسط، ينص على حقوق الإنسان الأساسية، ومنها حقوق النساء، وحرية التعبد، وحرية الصحافة، وأشكال الحرية الأخرى التي يعتبرها الأميركيون من قبيل المسلمات. كما أسست الوثيقة لحكم القانون، ومنه القضاء المستقل، والحق في محاكمة عادلة. وأخيراً، أسس الدستور لبنية سياسية جديدة تتميز ببرلمان من غرفتين ونظام فدرالي.

لا نقصد بهذا القول أن كل شيء تم وفق ما كان مخططا له في العراق، لكن استمرار المشاكل هناك، حتى بعد أن انخفض مستوى العنف بشكل جذري، يُظهر إلى أي مدى يمكن أن تكون عمليات الانتقال السياسي عقب تغيير النظام، صعبة وشاقة. والواقع أنه حتى الآن، مازالت القوات العراقية تواجه ضغوطاً قوية للحفاظ على الأمن في البلاد بعد رحيل القوات الأميركية.

وفي ليبيا، يمكن مواجهة هذه التحديات إذا لم يصرف انتباه حكومة الولايات المتحدة وأوروبا عن ليبيا الآن بعد موت الطاغية. فعلى غرار ما وقع في العراق، ساهمت الولايات المتحدة في إحداث تغيير سياسي جذري في ليبيا، وبالتالي فلديها نوعا من المسؤولية للمساعدة على النجاح. ولعل المهمة الأولى هي توفير الأمن إلى أن يتسنى تدريب وتجهيز قوة وطنية جديرة بالثقة. وهذا ربما يتطلب قوات خارجية من quot;الناتوquot; أو بعض البلدان الأوروبية. كما يتعين على الحكومة الأميركية، والحكومات الأخرى، رصد موارد لمساعدة الليبيين على إنشاء بنية سياسية ترتكز عليها حكومة ممثلة لكل الأطياف.

ورغم أن لحكومتنا عقوداً من التجربة في إعادة الإعمار بعد الحروب، فإنه ينبغي أيضاً تشجيع مجموعة متنوعة من المنظمات غير الحكومية للتقدم إلى الأمام من أجل مساعدة الليبيين على استعادة بلدهم.