علي محمد فخرو

في هذه اللحظة التي تتفجًّر فيها التفاعلات السياسية الكبرى في الأرض العربية، وعلى الأخصٍّ في تونس ومصر وليبيا، البلدان المحتفلة تحت رايات النًّصر، ينبــغي أن نطرح على مـــــن يعتبرون أنفسهم ليبراليين أوعلمانيين أو يساريين عربا، سواء في ساحات السياسة أو الإعلام، هذا السؤال :
ما التعريف للديمقراطية الذي ترضون به :
أهو التعريف المختصر الجامع الذي نطق به الرئيس الأمريكي أبراهام لنكولن، وذهب مثلاً أمميًاً، من 'أن الديمقراطية هي حكومة الشعب، بواسطة الشعب، ومن أجل الشعب' أو حتى التعريف المبسًّط للناقد الأمريكي هـ . ل. منكِن بأن ' الديمقراطية هي النظرية القائلة بأن الناس يعرفون ما يريدون وأنهم يستحقون الحصول على ما يريدون'؟
أم أنكم في قرارة أنفسكم تنظرون إلى الديمقراطية بنفس الطريقة السَاخرة التي عبًّر عنها الكاتب الايرلندي السًاخر الشهير برنارد شو بأن 'الديمقراطية (لا تفعل أكثر من أنها) تستبدل عملية التعيين بواسطة قلًّة فاسدة بعملية الانتخاب من قبل كثرة غير مؤهًّلة ولا كفؤة'؟
نطرح هذا السؤال بسبب ما نشاهده وما نسمعه من ولولة وشقّ الجيوب وذرف الدًّموع وآهات الحسرات كلما بدا في الأفق أو حدث في أرض الواقع أن ثورات الربيع العربي ستنتهي ببروز ملفت أو نجاحات انتخابية كبيرة لهذه الحركة السياسية الإسلامية أو تلك، في هذا البلد أو ذاك. فإذا كانت الانتخابات نزيهة ومحكومة بقوانين تحدُّ من بيع الذمم وتساوي بين فرص المتنافسين إبًّان الحملات الانتخابية، كما حدث في تونس المبهرة دوماً وكما هو مؤمًّل أن يحدث في مصر وليبيا قريباً، فان العملية الأساسية لتنظيم الجانب السياسي من الديمقراطية سليمة، وبالتالي يجب أن لا تصبح مشكلة عند أحد ولا تؤدٍّي إلى التحليلات والمخاوف الصٍّبيانية التي نشاهدها ونسمعها على شاشات التلفزيون. فالانتخابات النزيهة شرط ملزم لوجود الديمقراطية السياسية، وعندما تتحقًّق يجب الاحتفال بها من قبل الجميع مهمــا كانت النتائج.
يبقى أذن جانب آخر يقلقكم ويثير الغبار والشكوك من حول كل عملية ديمقراطية في وطن العرب، إنه الجانب الإيديولوجي. وهنا أيضاً، أين المشكلة؟ ففي السنين الأخيرة، عبر كتابات وتصريحات ومواقف لا حصر لها ولا عدًّ، بحً صوت الحركات السياسية الإسلامية وهي تؤكٍّد بأنها أصبحت تؤمن بالديمقراطية كتنظيم للحياة السياسية العربية، وبضرورة التعددية السياسية والثقافية التنافسية الشريفة، وبحتمية تبادل السلطة السلمي كاستجابة لإرادة الشعب، مصدر السلطات كلٍها، وببناء مجتمع مدني لاهيمنة ولا تحكُّم فيه لرجال ومؤسسات الدٍّين، بل وأن بعضها، كحركة النهضة في تونس، أكًّد تمسُّكه بالعلمانية، بمعنى فصل المجال السياسي عن المجال الديني في نظام الحكم.
ألا يكفي كل ذلك لأن نبدأ بالتوقُّف عن حملات إثارة القلق والمخاوف الهستيرية بشأن المستقبل وحتمية قيام دكتاتوريات دينية كلما برز أو نجح حزب إسلامي سياسي في أيـــة انتخابات؟
ثم إن هناك، في قلب كل ما سبق مسألة الحرية الفكرية والضميرية والمشاعريٌّة لدى النًّاخب العربي. فإذا كان هذا الناخب لا يريد القفز فوق الثقافة الإسلامية، المتجذرة في التاريخ وفي واقع الحياة اليومية، ويريدها أحد مكوٍّنات الفكر السياسي والأنشطة السياسية، وبالتالي يميل لانتخاب ممثًّلي الحركات الإسلامية السياسية، التي تعرض نفسها كوسطية معتدلة غير متزمٍّته وقادرة على التعايش مع الآخرين والتنافس معهم دورياً بشرف ونزاهة، إذا كان الناخب يريد ذلك فلماذا لاتحترم ارادته ؟ وإذا كان هناك من يريد تغيير أو تعديل أو تحسين هذه التركيبة في عقل ووجدان النًّاخب العربي، فمن سيمنعه عن أن يحاول ذلك في المجال السياسي الديمقراطي الذي تسعى الثورات الشبابية العربية الى بنائه؟
إن المصلحة العربية الوطنية والقومية ودروس الماضي القريب والتسامح المرجو في الحياة السياسية العربية الجديدة تتطلب عدم الرُّجوع لارتكاب أخطاء الماضي القريب عندما دخلت الحركات القومية واليسارية والليبرالية في معارك تشنجيًّة عبثية دونكشوتية مع الحركات الإسلامية السياسية أدًّت إلى اختطاف المجتمعات العربية من قبل العساكر والمغامرين الفاسدين والأحزاب الانتهازية.
إن الاختلافات الفكرية والإستراتيجية والإيديولوجية فيما بين الأطياف السياسية العربية مقبولة، بل وضرورية، لكن ضمن قواعد اللعبة الديمقراطية المحترمة. فالديمقراطية، التي هي في الأساس نظام غير مثالي وفيه مثالب نظرية وتطبيقية كثيرة، لا تكون محترمة إن لم تتصف ممارستها قبل كل شيء بفضيلتي الإنصاف والتسامح من قبل كل الأطراف العاملة تحت ظلًّها وحسب مبادئها الأساسية، ومن ضمنها إعطاء الفرصة لإثبات حسن النيًّة.
إن الفيلسوف البريطاني المعاصر أس. سي جريلنج يـــــقول بنقد لاذع بأن 'الحضارة الغربيـــة كانت مناهضة ومــــعادية للديمقراطيـــة ( (Anti-Democratic في معظم تاريخها'، وهو حكم قاس ولكن فيه كثير من الصحة ومن الحكم السًّلبي على الإنسان نفسه. فإذا كان هذا الحكم يأتي بعد مئات السنين من الإدًّعاء بالممارسة الديمقراطية في الغرب، فإننا يجب أن لا نبدأ مسيرتنا الديمقراطية بأقوال وتصرًّفات ومواقف غير ديمقراطية ومحبطة لممارسيها. إننا في هذه الحالة سنشوًه سمعتها وسنعطي المجال لكل مستبد معتوه أن يعود ليختطف حياتنا السياسية العربية ويهيمن عليها.