علي حسين


تأمّل العراقيون أن يكون التغيير بوابتهم لتأسيس دولة القانون والمواطنة، غير أنهم اكتشفوا بعد سنوات من سقوط صنم الطاغية أن الأمور تمضي وكأن الذين يحكموننا يكرهون القانون ويحتقرونه أكثر مما يكرهه الخارجون عن القانون، وقصة أجهزة الانترنيت التي تبرع بها أشاوس الحكومة إلى الشقيقة سوريا تكفي دليلاً على ما أقول وسأعرضها باختصار، حيث أن شركة أميركية متخصصة في وسائل مراقبة الإنترنت اكتشفت أن النظام السوري يستخدم هذه الوسائل لتعطيل أنشطة المعارضين السوريين عبر الشبكة العنكبوتية،

وان أنظمة المراقبة هذه كانت قد بيعت إلى وزارة الاتصالات العراقية التي استوردت العديد منها وقد اكتشف الأميركان أن ثلاث عشرة جهاز تستخدمه الحكومة السورية في التجسس على شعبها والسيطرة سيطرة كاملة على شبكة الانترنيت.
عندما انتهى حكم صدام وأزيلت أجهزته الاستخبارية والأمنية استبشر العراقيون خيرا بأن ساعة فطام الشعب قد حانت، وأننا أخيرا سنلتحق بركب الدول التي بلغت سن الرشد وتجاوزنا نزق الإرشاد والتوجيه، إلى مرحلة من النضج يكون فيها القانون والشفافية والنزاهة هي اعلام المواطن وليس مقرات الأحزاب ومديريات أمنه، لكن سياسيينا لم يستطيعوا مع العقل والنضج صبرا وأعادوا أنظمة التجسس ومراقبة المواطن إلى الخدمة.
سيقول البعض إن الدستور الدائم لعام 2005 اقرّ في مواد عديدة ضمان حرية الأشخاص ومعتقداتهم وآرائهم، لكن الواقع يقول إن حرية العراقيين مهددة حتى في بيوتهم، لم تعد الناس تصدق شعارات دولة القانون، كيف تتمسك الحكومة بالقانون وشرائعه وفي مؤسساتها قوى سياسية تريد إقامة نظام شمولي ولو بالترهيب؟.
لقد وعدت الحكومة في برنامجها الذي أعلنه رئيس الوزراء الناس بالرخاء والنماء والعمران ولم تعدهم بتضييق الحريات والتلصص عليهم، غير أن الحكومة مصرة على مطاردتنا حتى من خلال الانترنيت، كنت أتمنى لو صرفت هذه الملايين على كاميرات تزرع في الشوارع للكشف عن الإرهابيين وعصابات كاتم الصوت، وكنت اتمنى لو تم بهذه الاموال تشييد مجمع لأهالي حي الصفيح إلا أن الحكومة ادارت ظهرها لكل هذا وتفرغت تفرغت لمطاردة المتظاهرين، فرأينا كيف تمت مصادرة الحريات، والحصار المشدد لهامش الحرية الذي توهمنا أنه امتد واتسع بعد عام 2003.
فضيحة أجهزة مراقبة الانترنيت إلى جانب إنجازات الحكومة الباسلة في تعقب المتظاهرين ndash;الخارجين على القانون- تظهر بصمة واضحة في محتوى ما تقدمه حكومتنا الرشيدة وبعض مؤسسات الدولة، حيث التكفير بالتغيير والتحريض على نموذج الدولة المدنية لا ينقطع، وكانت الطامة الكبرى أن نهرع لنجدة الحكومة الشقيقة في دمشق فندفع مئات الملايين من أموال العراقيين لشراء أجهزة تحسب على الشعب السوري أنفاسه وتحركاته
والحاصل أن لدينا الآن ما يمكن تسميته بجهاز مراقبة المشاغبين من العراقيين يضع شعارا وحيدا لها هو quot;لا صوت يعلو فوق صوت الحكومةquot; وهذا الجهاز نفسه يمد خبراته للدول الشقيقة التي ترفع شعار quot;لا صوت يعلو على صوت القائدquot;. الغريب والعجيب في هذه الفضيحة أنها جاءت في وقت أعلنت الحكومة انها ألقت القبض على مئات الأشخاص الذين كانوا في صدد إعادة تنظيمات حزب البعث في العراق، بينما هذه الأجهزة سلمت إلى الحكومة السورية لدعم سلطة حزب البعث هناك حيث تشهد سوريا احتجاجات شعبية للخلاص من حكم الحزب الواحد والغريب أكثر أن تقدم أموال العراقيين لحزب يقول عنه رئيس الوزراء: quot;عقلية البعث هي عقلية المؤامرة والانقلاباتquot;.! ولهذا من حقنا أن نتساءل ما هي الفروقات بين حزب البعث في سوريا وحزب البعث في العراق؟ ألا ينتمي الاثنان إلى منظومة فكرية واحدة لا تؤمن بالآخر وشعارها دولة المنظمة السرية؟
والسؤال الأهم الى متى ستظل الحكومة تتحفنا الحكومة الكوميدية والمثيرة وتضفي على حياتنا طابعا فكاهيا ساخرا، خلاصة الأمر أن من هناك في الحكومة من لا يريد لهذه المهزلة أن تتوقف، ومنهم من لا يريد لدولة المواطنة أي اثر، ومنهم من لا يزال مصرا على أن العراقيين لم يبلغوا سن الرشد بعد، وان أوان فطامنا لم يحل بعد.