علي جرادات

بعد الانتفاضة الشعبية الرائدة في تونس، وما تلاها من انتفاضات شعبية عربية أخرى، كان واضحاً لكل ذي بصيرة أن محطة جديدة ونوعية في مسيرة التغيير الوطني والديمقراطي في الوطن العربي قد انطلقت، وأن النظام السياسي العربي العام، رغم التمايز النسبي بين مكوناته القُطرية المختلفة، قد دخل مرحلة انتقالية من الصراع بين جديد يتوالد وقديم يتهاوى . صراع معقد وشائك، يخطئ كل من يتوقع انتهاءً سريعاً لجذوته، خاصة بعد أن دخلت على خطه قوى دولية ذات ماضٍ استعماري، تسعى باستماتة لاحتوائه وخطف نتائجه، وعلى الأقل منه الحيلولة دون تمخضه عن أنظمة سياسية تمثل إرادة الشعوب العربية، وتؤهلها، وإن بتدرج، للتخلص من علاقة الاستبداد الداخلي من جهة، وللإفلات من علاقة التبعية السياسية والنهب الاقتصادي الخارجي من جهة أخرى، على ما بين العلاقتين من ترابط، يعكس العلاقة الموضوعية بين إنجاز التحول الديمقراطي وتعزيز السيادة والاستقلال الوطنيين، فضلاً عمّا بين هذا وذاك من تداخل مع القضايا القومية، وأولها القضية الفلسطينية، جوهر الصراع العربي مع العدو الصهيوني المتصادم على طول الخط مع أية تحولات وطنية وديمقراطية عربية، من شأنها أن تحرك من جديد المخزون التاريخي والذاكرة الجمعية العربية تجاه الغزوة الصهيونية، وموقف الشعوب العربية منها .

إزاء هذه اللوحة المعقدة من التناقضات التي حرَّكتها الانتفاضات الشعبية العربية، كان، ولايزال، من التبسيط، بل من السذاجة، توقُّعُ أن تكون النتائج النهائية للانتفاضات لمصلحة الشعوب المنتفضة، فقط بمجرد قدرة المعارضات العربية ذات المشارب الفكرية والسياسية المختلفة، على إطاحة النظام القائم، في هذا القُطر العربي أو ذاك، ومن دون قدرتها أيضاً على تجسير ما بينها من خلاف واختلاف، بما يمكنها من التوافق على صياغة نظام سياسي بديل، لا يجيب عن المسألة الديمقراطية، بمستوييها السياسي والاجتماعي، فقط، بل، ويجيب عن المسألة الوطنية أيضاً، ما يحيل إلى البحث عن السبيل الأنجع إلى تحقيق هذا التجسير التوافقي، وفي صلبه التوافق الديمقراطي بين قوى الإسلام السياسي وبقية ألوان الطيف الفكري والسياسي العربي، كمهمة يتعذر، حتى لا نقول يستحيل، تحقيقها، من دون التخلص من عقلية الوصي لدى الجميع، ومن دون القبول بالآخر والتنافس البرنامجي معه، من خلال الاحتكام إلى إرادة الشعب، والتداول السلمي للسلطة، عبر ما تفرزه صناديق الاقتراع، فيما يبقى الحديث عن كل هذا حبراً على ورق، وبلا طائل، إن لم تجرِ صياغته في عقد اجتماعي، (دستور)، راسخ، غير قابل للتجاوز تبعاً لتبدلات السلطة التنفيذية وأهواء القائمين عليها . هذا هو السؤال، (التحدي)، الأساس المطروح في هذه المرحلة الانتقالية على المعارضات العربية المشاركة في الانتفاضات الشعبية التي عليها معالجته والتصدي له، إما بطريقة، (منهج)، ldquo;المستبد العادلrdquo; كما فكَّر هوبز يوماً، وإما بطريقة، (منهج)، ldquo;العقد الاجتماعيrdquo;، كما فكَّر جان جاك روسو . هنا تجدر الإشارة إلى الفرق بين طريقة، (منهج)، أحزاب المعارضة التونسية، وطريقة، (منهج)، أحزاب المعارضة المصرية، بالتصدي لهذا السؤال المفصلي الذي يتوقف عليه تحديد ملامح النظام السياسي لمرحلة ما بعد الثورة .

لقد فشلت أحزاب المعارضة المصرية في توحيد رؤيتها على أن الدستور أولاً، بفعل ما وقع بينها من خلاف على أولوية إجراء الانتخابات أو صياغة الدستور، ما قاد إلى تمكين المجلس العسكري، بوصفه سلطة انتقالية، من فرضِ لجنة نخبوية، أنيط بها تعديل دستور عام ،1971 كتعديل أقر بضرورته مبارك قبل تنحيه، مع كل ما عكسه ذلك من طريقة اكتفت برتق خروقات النظام السابق بإعلان دستوري موجَّه، ولم ترتقِ إلى مستوى إعادة هيكلته، أي لم تمد اليد إلى الموضع الحقيقي للمرض، بل اكتفت بمعالجة أعراضه، بما يخالف إرادة تظاهرات مليونية دعت إلى عدم التوقف في منتصف الطريق، الأمر الذي كثفه بعض المفكرين المصريين بالقول: ldquo;ما كان ينبغي ترك الميدان بعد تنحي رأس النظامrdquo; .

بالمقابل جاءت أحزاب المعارضة التونسية بحل إبداعي لخلافاتها، وفرضت على السلطة الانتقالية، إجراء انتخابات تأتي بأهل الحل والربط، من خلال اختيار الشعب لمجلس وطني تأسيسي، تناط به مهمة صياغة دستور جديد، وتشكيل حكومة مؤقتة تعد لإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية، ما يعني تفويض الشعب من خلال الانتخابات باختيار مَن سيضع عقداً اجتماعياً للجمهورية التونسية الثانية . بهذا تخلصت قوى المعارضة التونسية من عقلية التوافق النخبوي، الأقرب إلى طريقة ldquo;المستبد العادلrdquo;، وفتحت الباب أمام ديمقراطية أقرب إلى الديمقراطية المباشرة، لا تسمح للشعب بالمشاركة في انتخابات ديمقراطية حرة ونزيهة فقط، بل، وتتيح له المشاركة في صياغة العقد الاجتماعي، (الدستور)، الجديد أيضاً، الأمر الذي يعكس جدية أحزاب المعارضة التونسية تجاه تغيير النظام السابق من جهة، ويتيح لها خَلْق حالة من الرسوخ والاستقرار للنظام السياسي الجديد من جهة أخرى .

إن كان للشعب العربي التونسي شرف الريادة بإطلاق الشرارة الأولى للانتفاضات الشعبية العربية، وإطاحة رأس أول نظام استبدادي عربي، فإن له اليوم قصب السبق في التأسيس لأول تجربة عقدية ديمقراطية عربية بمقدورها أن تعطي كل ذي وزن وزنه في المساهمة في بناء نظام ديمقراطي عربي سياسي تعددي، قائم على قبول الآخر، يستلهم ما أنتجته التجربة البشرية من جهة، ويضيف إليها تجربته الخاصة النابعة من خصوصيته التاريخية والاجتماعية والثقافية من جهة أخرى، بما يعني محاولة تأصيل منهج ديمقراطي عربي، بعيداً من الانغلاق العصبوي أو الانفتاح الذي لا يأخذ الخصوصية، ومطامع الدول الغربية ذات الماضي الاستعماري، بعين الاعتبار .

كانت الطريقة التونسية ناجحة حتى الآن، وربما تكون نموذجاً يحتذى، وكل ما نتمناه أن تواصل نجاحها، وألا تتعرض لانتكاسات قد تحصل أثناء الممارسة العملية، خاصة أن الخلاف بين قوى الإسلام السياسي والقوى العلمانية ذو جذور تاريخية، تمتد إلى بداية القرن العشرين .