أنس الشيخ مظهر

ليس شيئا مستنكرا أن يتوق العراقيون للتحرر وإخراج القوات الأميركية من العراق، وعدم الإبقاء على أي من قواتها بعد نهاية العام الحالي، ومقاومة الضغوط الأميركية في هذا الصدد, وكنا سنؤيد الحكومة العراقية لو كانت عند مستوى مسؤولية هذا القرار بأخذ احتياطاتها في أخذ الملف الأمني في كل العراق بشكل يمنع انتكاسة أمنية جديدة, باعتبار أن هكذا خطوة هي خطوة سيادية يجب أن تحشد وراءها كل إمكانات الدولة، خصوصا أن الحكومة العراقية كان أمامها الوقت الكافي لأخذ كل المستلزمات لتكون متهيئة تماما للانسحاب الأميركي.
ولكن ما رأيناه بهذا الصدد هو، وبمجرد اقتراب موعد الانسحاب الكامل لهذه القوات، أن العراق شهد حالات من التدهور وانتكاسة كاملة في الحالة الأمنية دحضت كل ادعاءات الحكومة طوال ثلاث سنوات، بأنها هي لا غيرها من حققت الاستقرار الأمني في العراق.
هنا يجب أن نقف قليلا، ونحاول استدراك الأسباب التي أدت إلى التخبط الحكومي في هذا الموضوع, فهناك احتمالان لا ثالث لهما: إما أن الحكومة العراقية لم تكن تنوي طلب الانسحاب الكامل من القوات الأميركية، وتعاملت مع الموقف على أساس وجود أميركي طويل الأمد، يكون ساندا للقدرات الأمنية العراقية المتواضعة؛ بعيدا عن الاعتماد الكامل على الإمكانات الذاتية, وهذا يتنافى كليا مع ادعاءات الحكومة بأنها كانت ماضية في قرارها بطلب الانسحاب الكامل للقوات الأجنبية من أراضيها، وهذا يعني أن هذه الحكومة كانت تمارس التقية السياسية مع مواطنيها، وتتقصد إيهامهم بشعارات بعيدة عما يحصل على أرض الواقع ( وقد أتى قرار العمل على سحب القوات الأميركية من قبل حكومة المالكي بشكل مفاجئ وبعيد عن الشيء الذي كانت تخطط له، ويمكن أن تكون هذه الأوامر لدولة شقيقة مثل إيران).
وإما أن الحكومة العراقية كانت تخطط لهذا الانسحاب منذ فترة ولكنها لم تقم بما يجب فعله لملء الفراغ الأمني الذي سوف ينجم عن انسحاب القوات الأجنبية لعدم امتلاكها الدراية الكافية لإدارة هذا الملف، على الرغم من أن ثماني سنوات هي فترة ليست بالقصيرة على أي حكومة لتتعلم ألف باء إدارة الحالة الأمنية, وهنا تجب محاسبة كل الأصوات التي كانت تنادي بخروج القوات الأميركية وهي تدرك أن القدرات الأمنية للدولة ليست بالمستوى المطلوب؛ لكونها تستهتر بأرواح المواطنين الذين أوصلوهم إلى دفة الحكم، ولا تعير أهمية للدماء التي سوف تسال من جراء هكذا خطوة غير محسوبة.
وحقيقة تجب محاكمة جميع الذين كانوا يهددون ويعربدون لخروج القوات الأجنبية، لكونهم لم يستطيعوا أن يقدموا البديل لها لأنهم أضعف من ذلك، ولا يشكلون إلا ظاهرة صوتية في العراق الجديد.
نعم نجحت حكومة المالكي في عدم التمديد لبقاء القوات الأميركية، وها هي تحزم حقائبها للرحيل عن العراق بعد أن دخلت في مباحثات مضنية مع الحكومة العراقية، تخللتها مزايدات سياسية بين هذه القائمة أو تلك للتنصل من مسؤولية اتخاذ أي قرار بهذا الشأن، ورافقتها تهديدات من الصدريين بمقاومة أي نوع من الوجود الأميركي حتى لو على شكل مدربين.
ولكن ماذا بعد الخروج الأميركي؟ هل الوطنية هي باتخاذ قرار غير مسؤول وغير محسوب العواقب، بحيث يُدخل الدولة في نفق مظلم مجهول النهاية؟ أم أن الضغوط الإيرانية على الحكومة العراقية وتحريك أذرع إيران السياسية في العراق نجحت في إخراج القوات الأميركية بغض النظر عن خطورة هذه الخطوة في هذه المرحلة بالذات؟
لسنا هنا بصدد الدفاع عن الوجود الأميركي واحتلاله للعراق, ولكن الحل لا يكمن في الخروج من احتلال والدخول في احتلال جديد حتى إن اختلف الشكل, فالمفروض أن يكون المغزى من الانسحاب الأميركي هو استرداد القرار العراقي المستقل بعيدا عن أي تأثيرات خارجية من أي جهة كانت, ولكن هل بعد الانسحاب الأميركي سيسترد العراق هذه الاستقلالية؟
ما شهدناه على الساحة العراقية في الآونة الأخيرة هو انتكاسة في الحالة الأمنية والسياسية تمثلت بذهاب أكثرية المدن السنية الرافضة للسيطرة الإيرانية على العراق إلى الدعوة لتشكيل أقاليم خاصة بها (مع أن هكذا دعوات ليست خارج بنود الدستور ومن حق أي مدينة أو أكثر أن تشكل إقليما لها)، ولكن السبب الحقيقي لهذه الدعوات هو التخوف السني الحقيقي من الالتهام الإيراني للعراق بعد انتفاء الغطاء الأميركي الذي كان يوازن الاحتلالين.
ومن الناحية الأمنية شهدنا رجوع موجة العنف بقوة لتشمل أكثرية المدن العراقية، ولتتخذ شكلا جديدا من العنف الذي كاد يتعافى منه العراق، ويبدو أن أقصى ما كان يأمله الساسة العراقيون من الانسحاب الأميركي هو المباركة التي تلقوها من إيران بنجاح الحكومة العراقية في مسعاها لإخراج (المحتل الأميركي). ونحن هنا بدورنا نهنئ ldquo;الشقيقةrdquo; إيران بهذا الإنجاز التاريخي لها والذي يفتح الباب واسعا على كل الاحتمالات في العراق.