هدى الحسيني

عندما تسلمت كوندوليزا رايس منصب وزارة الخارجية الأميركية، قال لي أحدهم في واشنطن: إذا أدارت السياسة الخارجية كما كانت تدير الأمن القومي، كان الله في عوننا.

وأثناء الحملة الرئاسية الانتخابية عام 2008 وفي أحد الإعلانات المؤيدة لهيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية الحالية، كان السؤال: لمن ستطمئن أميركا أكثر عندما يرن جرس الهاتف في البيت الأبيض عند الساعة الثالثة والنصف بعد منتصف الليل؟ على أساس أن لديها خبرة في السياسة الخارجية تفوق خبرة المرشح الآخر آنذاك باراك أوباما.

لكن السياسة الخارجية الأميركية في هذه المرحلة الحساسة التي يعبرها العالم، تبدو في حالة مخيفة من اللاتركيز والضياع واللجوء إلى أساليب، ربما كانت ناجحة في الزمن الماضي عندما لم يكن laquo;العالم قرية كبيرةraquo; مفتوحة على بعضها البعض.

التركيز الآن على أفغانستان عام 2014. لكن فشل واشنطن في الحصول على موافقة عراقية للإبقاء على وجود عسكري لها في العراق بعد شهر ديسمبر (كانون الأول) المقبل، سيجعل من الصعب على أفغانستان الموافقة على نشر قوات مماثلة بعد عام 2014. وما حدث في مؤتمر إسطنبول الأسبوع الماضي بمشاركة 14 دولة، دليل على تعثر خطة ما بعد عام 2014.

وضعت أميركا وحلفاؤها الغربيون آمالا كبيرة على تركيا، العضو في الحلف الأطلسي للعمل على الخروج بإعلان في ختامه، من شأنه تمهيد الطريق لإنشاء أمن إقليمي وآلية تكامل على نمط منظمة الأمن والتعاون الأوروبي، على أن يتثبت هذا الأمر في مؤتمر بون الثاني في شهر ديسمبر المقبل الذي دعت ألمانيا 90 دولة و15 منظمة عالمية للمشاركة فيه. لكن الدول المجاورة لأفغانستان التي تعاني من شكوك عميقة حول النيات الأميركية رفضت الموافقة على وجود دائم للغرب في أفغانستان.

العارفون يقولون إن الهدف الحقيقي لواشنطن لا يزال لجم التقدم البارز للصين وروسيا في آسيا الوسطى، من أجل الوصول مباشرة إلى الموارد المعدنية الهائلة في المنطقة من خلال مد خطوط تتجاوز روسيا وإيران.

خرجت أميركا من مؤتمر إسطنبول خالية الوفاض، وخرجت تركيا وعلاقاتها مع باكستان متوترة جدا. ضعفت السياسة الخارجية الأميركية كثيرا مع حملة واشنطن لإحكام الخناق على باكستان مع اقتراب نهاية المسألة الأفغانية. كان ذلك كرد فعل لانزعاج واشنطن من علاقة المودة المستجدة بين باكستان وإيران. كان يمكن لباكستان أن تكون معزولة إلى حد كبير لو كان هناك تنافس حاد بينها وبين إيران في مرحلة العد النهائي لترتيب الوضع الأفغاني. عندما نصح الكثير من الدبلوماسيين الباكستانيين واشنطن بعدم استعمال سياسة العصا فقط مع باكستان، رفضت الإصغاء. اعتقدت واشنطن في حسابات خاطئة، أن الهند سترحب بالضغط الأميركي على باكستان، وخصوصا بعد التهديد بعمل عسكري ضدها (حتى الرئيس الأفغاني حميد كرزاي قال إن بلاده ستقف إلى جانب باكستان إذا ما تعرضت لضربة عسكرية أميركية). وزارة الخارجية الهندية أصدرت بيانا ترفض فيه أي عمل عسكري ضد باكستان، فما كان من قيادة الجيش الباكستاني في روالبندي إلا أن أمرت (بعد يوم واحد من بيان الخارجية الهندية في 22 الشهر الماضي) طائرة هليكوبتر هندية مع ثلاثة ضباط كبار على متنها، كانت دخلت الأجواء الباكستانية بسبب سوء الأحوال الجوية، بإعادتها إلى الهند، ردت واشنطن بإصدار تحذير لرعاياها بتجنب السفر إلى الهند بسبب التهديدات الإرهابية!

أمعنت الهند في تحديها فصوتت لترشيح باكستان (عن مجموعة آسيا والمحيط الهادي) للعضوية غير الدائمة في مجلس الأمن، فكانت استجابة السفير الباكستاني لدى الأمم المتحدة، أنه سيعمل وينسق مع نظيره الهندي. والمعروف أن الأمم المتحدة كانت دائما مسرحا لاشتباكات الهند وباكستان حول كشمير. العلاقات بين باكستان وإيران هي أكثر ما يثير حنق الولايات المتحدة، جرت سلسلة من الزيارات رفيعة المستوى بين إسلام آباد وطهران، وتوصلت العاصمتان إلى تفاهم متبادل حول مجموعة من المصالح الأمنية. ولإثارة واشنطن أكثر، قالت طهران الشهر الماضي، إن جماعة laquo;جند اللهraquo; الإرهابية، ومنذ عشرة أشهر لم تشن أي عملية إرهابية من الحدود الباكستانية، في بلوشستان. وقالت طهران إن اعتقال باكستان وإبعادها ممثل وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية ريمون دايفيز في لاهور في يناير (كانون الثاني) الماضي، أدى إلى laquo;كبح قدرة أميركا على إرسال إرهابيي (جند الله) إلى إيرانraquo;.

وكي تبادل حسن النيات الباكستانية بالمثل، تحاول إيران التوفيق بين سياستها وسياسة باكستان في أفغانستان، وتجنبت توجيه أصابع الاتهام إلى باكستان باغتيال برهان الدين رباني الذي كان حليفا وثيقا لطهران.

تكرر طهران على مسامع الباكستانيين أن التحدي الاستراتيجي للولايات المتحدة سيكون laquo;في مصلحة الاستقرار في المنطقةraquo;، ذلك، أنها تواقة لإجبار القوات الأميركية على مغادرة المنطقة. هي نجحت في تحقيق هدف مماثل في العراق بإجبارها النخب السياسية الشيعية في بغداد على رفض كل الطلبات الأميركية بالبقاء بعد الموعد النهائي. لكن في أفغانستان تشعر بأن وضع استراتيجية مشتركة مع باكستان، سيساعد أهدافها البعيدة.

باختصار، الوضع في المنطقة هناك صار غير موات للولايات المتحدة. استضعفت باكستان ولوحت لها بالعصا، فردت الأخيرة بتخفيف التوترات في علاقاتها مع الهند وإيران الأمر الذي يقوض استراتيجية الولايات المتحدة للبقاء في المنطقة.

أمام هذا الأمر، لجأت أميركا إلى تخويف الهند أولا بتحذير رعاياها من السفر إليها، وأيضا بسياسة التضليل، عندما زعمت بأن الصين وباكستان تتآمران على الهند بإقامة قواعد عسكرية صينية في المناطق الشمالية من باكستان التي تشكل جزءا من كشمير. تزامن ذلك مع تحسن الوضع الأمني في كشمير. لكن أميركا أرادت من هذه laquo;الإشاعةraquo;، ضرب عصفورين بحجر واحد: خلق فتنة بين باكستان والهند، وتوتير العلاقات الهندية - الصينية.

أيضا، رد رئيس الوزراء الهندي مانموهان سينغ بأنه مقتنع بأن القيادة الصينية تريد التوصل إلى حل سلمي لجميع المشكلات بين البلدين بما فيها النزاع الحدودي، فاستجابت الخارجية الصينية بالقول: إن الصين على استعداد للعمل مع الهند لتعزيز الشراكة الاستراتيجية بين البلدين!

كل الهدف من هذه الحسابات الخاطئة هو أن الإدارة الأميركية بحاجة ماسة للتوصل إلى اتفاق استراتيجي مع حميد كرزاي من شأنه أن يسمح بوجود عسكري أميركي طويل الأمد في أفغانستان. كرزاي سيدعو الأسبوع المقبل إلى عقد لويا جيرغا (المجلس الكبير). هو وعد بأن laquo;الاتفاق الأميركي - الأفغانيraquo; سيرسل إلى البرلمان للمصادقة عليه بعد أن يكون نوقش في اللويا جيرغا. واشنطن تصر على أن يوافق اللويا جيرغا على مسودة الاتفاق قبل مؤتمر بون الثاني.

البرلمان الأفغاني تخوف من أن يتجاوزه كرزاي بعد أن يحصل على موافقة اللويا جيرغا، فوجه إليه رسالة رسمية يلفته إلى حقه الدستوري في الموافقة على مسائل السياسة الخارجية!

بعد انتهاء الحرب الباردة، أعادت دول كثيرة مراجعة حساباتها واستراتيجياتها، باستثناء أميركا، وهذا الاندفاع الجنوني في أخطاء سياستها الخارجية، التي تعتمد على فرض الإذعان بالقوة، سيورط دولا كثيرة في العالم، لكنه كان أيضا من مصلحة الصين وروسيا اللتين تراقبان وتنتظران.

واشنطن هددت باكستان ذات الاقتصاد المنهار، فهبت روسيا والصين إلى نجدتها. الدولتان ستدعمان laquo;صمودraquo; باكستان في laquo;تحديهاraquo; من أجل إحباط استراتيجية أميركا الرامية إلى استمرار تدخلها في منطقة آسيا الوسطى. يوم الثلاثاء الماضي صدر كتاب للرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون يحمل عنوان laquo;العودة إلى العمل: حكومة ذكية تعني اقتصادا قوياraquo;. هذا صحيح إلى حد ما، لأن الحكومة الذكية تعتمد أولا على سياسة خارجية ناجحة تجنبها laquo;مواصلةraquo; حروب مكلفة تنتهي بهزيمتها وإضعاف اقتصادها. هيلاري كلينتون ظلت تردد أنها وجدت الحل لأفغانستان: إضعاف طالبان ودفعهم إلى طاولة الحوار. هذا الحل فشل، وطالبان مقتنعون بأنهم يقتربون من laquo;النصر الحتميraquo;.

من المؤكد أن مرحلة خطيرة تنتظر الولايات المتحدة والأطلسي في أفغانستان مع احتمال أن تتعاون laquo;قوات الملا عمرraquo; وlaquo;شبكة حقانيraquo; علنا لتكثيف عملياتها الإرهابية.