سمير عطا الله
أفكر في حال السيدة صفية فركاش. ليس منذ أمس، عندما رأت بكرها يعتقل وهو هارب وينقل إلى سجن ليبي مجهول، خائفا من محاكمة لن تكون، على الأرجح، أكثر عدالة من محاكمات والده. هذا إن فعل. فقد كان يخطف معارضيه ويخفي عظامهم ويقتل سجناءه السياسيين ويمنع إبلاغ أهاليهم، بحيث يستمرون في إرسال الطعام إليهم إلى ما بعد سنين. لكنني أفكر في حال السيدة فركاش، في أي حال. فهي أم. وأمس قال محمد الفرجاني، أحد معتقلي سيف الإسلام القذافي إنه laquo;كان ساهما حزينا ويفتقد إلى دفء الأهلraquo;. وقد قطع رئيس laquo;منظمة القذافي الإنسانيةraquo; رحلة طويلة في العنف وتحقير الناس وترك ضيوفه laquo;يلعقون أحذيتهraquo;، قبل أن يدرك، على حدود النيجر، وفي ملاذ الطوارق، معنى العذاب البشري ومعاني العائلة، وبساطة معاني وأهمية العلاقات الإنسانية.
لكنني لا أفكر فيه بل في والدته، السيدة فركاش، التي نجت بنفسها لكي تشهد من المنفى، كيف انتقم الليبيون من زوجها، وكيف أردوا نجلها وهو يدخن آخر سيجارة ويشرب آخر نهلة ماء. كان المشهد مؤلما وخاليا من أي شعور بالعدالة والقانون. تصرف الضحايا كالجزار. وإذا كانت ليبيا اليوم تريد فعلا تأمين محاكمة عادلة - لها قبل سيف الإسلام القذافي - فالأحرى أن تسلمه إلى المحكمة الجنائية الدولية، لا أن ترفض ذلك.
كم يتكرر مشهد العراق. لم يبق تقريبا سوى نساء العائلة لكي يحزنّ على ما حل بالرجال في نهاية مسيرة الظلم والتكبر والغرور والوحشية. هل كنّ شريكات في ما حدث؟ هل كان في إمكان صفية أن تؤثر على زوجها، بأي نسبة ممكنة؟ وهل كان في إمكان حسناء الجماهيرية ومدللة والدها، أن تنصحه بالقليل من العقل والقليل من مشاعر الإنسان وشيء من تواضع الفانين؟ أم أن صفية فركاش لعبت الدور الذي تلعبه النساء غالبا. دعونا من معرفة الجواب. كان مشهد الابن البكر محزنا للأم، كما كان مشهد الزوج المسحول من شعره مفزعا لها، وللعالم وللتاريخ. فلم يكن أحد يتوقع مثل هذا العقاب.
كذلك راحت أرملتا صدام حسين وأولاده يتأملون جثث الأشقاء ثم جثة الأب، مصورا بهاتف جوال. كذلك عثر على المتعالي في مخبأ أرغمه على إحناء رأسه لكي يتمكن من الدخول فيه. كان هيلا سيلاسي يرغم ضيوفه على المرور تحت قبة خشبية واطئة لكي ينحنوا أمامه. لماذا يختار الرجال هذه الدرجة من التكبر والظلم؟ ما الذي يشعرهم بأنهم فوق البشر؟ ألم تعطَ صفية فركاش الوقت لتعليم بكرها أنه لا يجوز القول laquo;كانوا يلعقون أحذيتنا؟raquo;. ألم تنبه هنيبعل أنه لا يجوز إحراق الخادمة بالماء الساخن؟ ألم تنهر عائشة لأنه لا يجوز قطع أصابع شاب وجه إليها النقد؟ ألم تعلم أم عدي بكرها ما لم يعلمه والده: الناس ليسوا بعوضا. ومحزن، في كل حال، حال السيدة أم سيف. كما هو محزن ما فعله زوجها ببلده وشعبه وأمته. ومحزن ما بعد الثورات العربية كما هو محزن ما قبلها.
التعليقات