محمد الأشهب

سئل المستشار المغربي أحمد رضا اغديرة يوماً عن الموقع الذي حلم به ولم يتحقق، فرد الرجل الذي كان يحظى بثقة الملك الراحل الحسن الثاني وكان رفيقه في رحلاته البعيدة عن الأضواء أنه منصب رئيس الحكومة.

والحقيقة أن المحامي الذي كان يفاخر أنه مارس السياسة عبر تدبيج افتتاحيات صحف عدة قريبة من القصر، لم يترك حقيبة وزارية مهمة إلا وتأبطها تحت ذراعيه، من الداخلية إلى الزراعة ومن الخارجية إلى التعليم، مروراً بالبلاط الملكي، قبل أن يستقر مستشاراً يحاور الزعامات السياسية كما السلطة الجزائرية وصانعي القرارات الأوروبية والأميركية. لكن رئاسة الوزراء افلتت من بين أصابعه، يوم كانت في متناول شخصيات تكنوقراطية أو موالية، ليس وراءها أحزاب أو مناصرون سياسيون.

بالقدر الذي لم يفلح المستشار المتنفذ في تشكيل حزب سياسي، فقد تعاطى مع السياسات الداخلية والخارجية على نطاق واسع. أقربه أن خصومه الحزبيين حين كان وزيراً للداخلية وعندما جمع شتات أحزاب موالية تحت خيمة laquo;جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستوريةraquo; تحولوا إلى محاورين يطرقون باب مكتبه من دون حرج أو خلفيات. فقد نسي الرجل خصوماته، وانصرف ليصبح رجل دولة بامتياز.

غير أن السياسي الذي ابعدته خلافات ظرفية عن مربع السلطة، بعد اضطراره إلى الاستقالة من مناصب حكومية في ستينات القرن الماضي، سيجد الفرصة سانحة للعودة إلى الواجهة على خلفية المحاولتين الانقلابيتين الفاشلتين ضد نظام الحسن الثاني عامي 1971 و1972.

وقتها اختار المحامي اغديرة أن يوجه رسائل سياسية من المحكمة العسكرية في القنيطرة. وقال ضمن مرافعاته التي شدت الانتباه إن إقدام عسكريين على مغامرات انقلابية مصدره الفراغ السياسي واستمرار حال الطوارئ المفروضة منذ عام 1965. وكما لم يستوعب كثيرون كيف أن رفيق درب الحسن الثاني يؤازر ضباطاً حاولوا قتله، فإن خصومه السياسيين توزعوا بين التقاط الإشارات أو التقليل من دلالتها.

لم ينقضِ عام 1972 حتى كان الملك الراحل يطرح دستوراً جديداً على الاستفتاء ليبدأ الخطوة الأكثر رجاحة على طريق انفتاح سياسي تطلب أكثر من عقدين، خلد بعده المستشار إلى الظل، يوم اكتشف الحسن الثاني أنه استخدم نزعته الحزبية أكثر من مسؤولياته الاستشارية. وبقي اسمه مرتبطاً بصراعات الأخوة الأعداء في حلبة السياسية وكواليس الأحزاب. فقد أخفق حيث لم يكن الإخفاق حتمياً، ونجح في الإمساك بخيوط ملفات إقليمية وعربية ودولية، حالفه في ذلك أنه ظل يرتدي عباءة الدفاع عن قيم عصرية.

هي الصدفة وحدها أو المقاربة ستجعل رجلاً آخر من زمن آخر يمضي قدماً وكأنه يقتفي أثر المستشار اغديرة. إنه الوزير السابق المنتدب في الداخلية فؤاد عالي الهمة الذي عينه العاهل المغربي محمد السادس مستشاراً في البلاط الملكي. وإذ يحسب لعالي الهمة أنه بلور رؤية الملك الشاب في المصالحة مع ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، فإن اندفاعه في خوض معارك حزبية في مرحلة المد الديموقراطي لم يكن ضرورياً. وفي أقل تقدير كان في وسعه أن يحولها إلى نقاش فكري يخلق مشارب وتيارات قابلة للحياة.

للموقع دلالته، وصناعة الأحزاب ليست موضة جديدة في المغرب. فالحسن الثاني الذي ردد يوماً أنه لا يتقبل فكرة أن يكتسح حزب سياسي المشهد الانتخابي، قبل ان تنقضي سنة على الأقل على تأسيسه، كان هو نفسه الذي غض الطرف عن تلك الصناعة التي laquo;ازدهرتraquo; في فترة التضييق على الأحزاب. ولعل ما دفعه إلى الإمعان في تأمل المشهد المغربي أن المصالحة التي أقرها مع فصائل المعارضة في تسعينات القرن الماضي آلت إلى وفاق تاريخي، جنب البلاد السير في الاتجاه غير الصحيح.

الإشارة التي التقطها خلفه الملك محمد السادس، وهو يمضي في العشرية الثانية من حكمه، كافية لاستخلاص أن هدير ديموقراطية صناديق الاقتراع أفضل من الصمت الذي يطبق على الأمكنة والنفوس. ولعله وحده لم تفاجئه نتائج الاستحقاقات الاشتراعية، لسبب بسيط يكمن في أن جولاته التي لم تترك قرية نائية إلا وتوقف عند آلام ومعاناة أهلها.

صار للمغرب دستور جديد يبحر من خلال ميثاقه تحت سماء ملبدة السحب. وتوزعت الأدوار بين شارع يعبر عن تطلعاته وقصر يصغي إلى النبض. ولن يكون صدفة أنه كما يرتب الشارع أوراقه، فإن البلاط الملكي ينفتح على نخب جديدة. فقد يتعين على المرء أن ينسى بعض ما تعلمه، إن لم يكن يفضي إلى فك الغاز أي معادلة رياضية أو سياسية.