حسن حنفي

تتنازع المواطن المصري عاطفتان متضاربتان، مقاطعة الانتخابات احتراماً لدم الضحايا أو المشاركة فيها. ففي أتون الثورة الثانية لا مكان لإطفائها أو الالتفات حولها كما حدث في الثورة الأولى. فالثورة الثانية مستمرة ولن تتوقف كما توقفت الثورة الأولى ثقة بالمجلس العسكري الذي فوض إليه الرئيس السابق سلطاته قبل أن يتخلى عن الحكم، ودم الضحايا كان ثمن المطالبة بمجلس ثوري مدني تحول إليه سلطة المجلس العسكري، يدير شؤون البلاد، ويحقق مطالب الثورة العاجلة حتى تجرى الانتخابات في جو صحي ورضا كامل. فالانتخابات ليست إجراءً صوريّاً ولكن تتويج لمرحلة نضال وطني، وبعد أن تطمئن الثورة على حاضرها ومستقبلها. وإن كان هو رأي الأقلية المتطهرة النقية من السباب إلا أنه موجود. أما الأغلبية فإنها تريد المشاركة في الانتخابات على رغم دم الضحايا. فهي وسيلة التحول من سلطة المجلس العسكري إلى سلطة الشعب من خلال مجلس منتخب يعبر عن إرادة الأمة. وهي إحدى مراحل التحول الديمقراطي. وهو رأي الواقع الممكن. ما هو كائن وليس ما ينبغي أن يكون. وكلا الرأيين صحيح. الرأي الأول كلّف دم الضحايا، والثاني تطلب من البعض التحالف مع المجلس العسكري لمغانم مستقبلية بعد الانتخابات وتنسيق المواقف من أجل الوصول إلى الأغلبية في البرلمان. وبعدها يكون لكل حادث حديث، استمرار التنسيق أو بداية الصراع كما حدث في الجمهورية الثانية عندما نسق النظام مع الإسلاميين لتصفية الناصريين في أوائل السبعينيات ثم وقع الصدام بينهما في أوائل الثمانينيات وكانت تكلفته رأس النظام.


ومما يدل على واقعية الرأي الثاني وغلبته هذا الإقبال الشديد على الانتخابات في يومها الأول وفي ساعات الصباح الأولى. ومن المواطنين من حضر قبل الموعد بساعات من أجل الوقوف في الطابور قبل أن يطول ويلف المدرسة كلها مرتين. لا فرق في ذلك بين طابور كبار السن وطابور الشباب، بين طابور الرجال وطابور النساء. وتوقفت حركة المرور حول مقار اللجان لكثرة القادمين وضيق الشوارع. وهذا هو ثمن الديمقراطية التي حُرم منها الشعب على مدى ستين عاماً. كانت الانتخابات فيها صورية. تـُعرف نتائجها مسبقاً. وكانت الموافقة بنسبة 99.9% موضع سخرية من الشعب وأضحوكة العالم. ونسبة الغياب كانت تفوق نسبة الحضور. وأحياناً لا تزيد نسبة الحضور عن 5%. واليوم اختلف الأمر. ولم ينس شعب مصر الدفاع عن حقه في الحرية والاختيار والمشاركة في العمل السياسي.
وما زال اعتصام ميدان التحرير قائماً. والمطالب بإنشاء مجلس رئاسي مدني ثوري يحكم البلاد في فترة انتقالية ويحقق مطالب الثورة بحسم ثوري ما زالت مطروحة. رأي في مقابل واقع، أمنية في مقابل إمكانية. يحملها الشباب الثوري الذي فقد من الضحايا في يناير الماضي بالمئات. وفقد من الضحايا في نوفمبر بالعشرات. والدماء لم تجف بعد. والمواطن الصادق في حالة من الانشقاق بين عقله في صناديق الانتخابات، وقلبه في ميدان التحرير. يخشى أن تتحول المعركة من إنقاذ الثورة إلى الحصول على مكاسبها. يخشى أن تكون الانتخابات لسرقة ثورة الشباب بألاعيب السياسيين. يخشى أن تكون الانتخابات صورية، وما زالت السلطة في يد المجلس العسكري بطريقة أو بأخرى حتى تتم باقي مراحل التحول الديمقراطي. فقد كانت هناك انتخابات قبل 1952 وكانت هناك أحزاب أقلية وأحزاب أغلبية، ولكن السلطة كانت بيد القصر والإنجليز.

ويذهب الشعب إلى صناديق الاقتراع ويجد أمامه عشرات من القوائم والمرشحين، تتشابه في الأسماء والبرامج حول نهضة مصر. لم يطلع عليها. فالمقصود هو عملية الانتخاب وليس انتخاب من؟ وتوقيتها غير ملائم. فما زال الشعب منقسماً بين الثورة الثانية في ميدان التحرير وبين المجلس العسكري الذي أجهض الثورة الأولى، وبعض القوى السياسية المتحالفة معه أعطوا الأولوية للمكاسب الحزبية على المطالب الوطنية. وتـُنسى دماء الضحايا. والكل ينشغل بنتيجة الانتخابات! من له الأغلبية، ومن يتلوه؟ ومن سيشكل الحكومة القادمة؟ وما هي طبيعة الائتلافات بين الأحزاب من أجل تشكيل حكومة تحظى بموافقة البرلمان؟ ويتحول النضال الوطني إلى صراع سياسي، وتنقلب الحركة الثورية إلى مناورات حزبية. والسلطة الفعلية في يد المجلس العسكري مباشرة أو من وراء ستار. لا يقبل الضغط عليه من أحد. أما ضغطه هو على الناس فلا جناح عليه. وذرّاً للرماد في العيون ومحاولة للجمع بين ثوار التحرير والمجلس العسكري يأتي اقتراح تكوين هيئة استشارية بلا سلطات ممثلة لجميع القوى السياسية، شباب التحرير والقوى السياسية التقليدية. وكلما زاد عدد الهيئة، وقد قارب الخمسين، اختلفت الآراء، وقلت الفاعلية، وتحولت إلى نادٍ ثقافي، والحسم في يد المجلس العسكري.

والبعض ما زال يشك في إجراءات الانتخابات وإمكانية التزوير فيها بعد أن تترك ليلة خاصة في المناطق النائية. ويظن فريق آخر أن الصناديق قد امتلأت من قبل، والنتيجة قد ظهرت إلا أنها لم تعلن. هذه هي صورة الانتخابات في ذهن الشعب طبقاً لما تعود عليه. والفلول ما زالوا في الساحة بعد حكم القضاء الإداري لها بالمشاركة في الحياة السياسية بعد أن منع القاضي الابتدائي ذلك. وصدر قانون العزل السياسي بعد اندلاع الثورة الثانية، بعد عشرة أشهر، مفرغاً من مضمونه الثوري، ومحيلًا الفلول إلى القضاء ومحكمة الجنايات. وما زالوا يملكون المال والسلطة والتوجيه من داخل السجون. والداخلية هي الداخلية قادرة على كل شيء. والشباب بلا مال أو سلطة أو جهاز دولة، مجرد اعتراض في الهواء، صوت في البرية. فمن يطالب اليوم بدماء الضحايا الأربعين، ضحايا الثورة الثانية، والتحقيق لم ينته بعد في ضحايا الثورة الأولى؟ وإذا كان دم ضحايا الثورة الأولى موزعاً بين رأس النظام ووزير الداخلية وأعوانه فإن جناة ضحايا الثورة الثانية معروفون، من أصدر الأوامر بإطلاق الرصاص الحي. ومن الذي أمر باستعمال العنف المفرط ومعاملة شباب الثورة الثانية كأعداء لا يستحقون إلا الموت وجر جثثهم إلى الأرصفة أو صناديق القمامة؟

هنا يتوزع المواطن بين الحزن والفرح، بين اليأس والأمل، بين ميدان التحرير وصناديق الاقتراع، بين القلب والعقل، بين الأقلية والأغلبية، بين النخبة والجماهير، بين الثورة والدولة. لا يستطيع أن يستغني عن الاثنين. فكلاهما ضروري، المضمون والشكل، الطاقة والحركة، الوقود والمحرك. بالنسبة للثوار، الثورة هي الثورة، وبالنسبة لرجال الدولة، الدولة هي الدولة. والقضية هي كيف يمكن الجمع بين الثورة والدولة، تحويل الثورة إلى دولة، وإقامة الدولة على أسس ثورية؟ ما يهم هو رفض التخوين المتبادل، واستبعاد أو إقصاء طرف وإبقاء آخر. فالحياة السياسية تقوم على وجهات نظر متعددة. ليس فيها صواب وخطأ. فالتعددية السياسية تعددية فكرية ونفسية قبل أن تكون تعددية حزبية وتداولا على السلطة. وعلاقة الشاب السلمي مع العسكري المسلح ليست علاقة قوة بين طرفين بل علاقة بين شرعيتين، ما ينبغي أن يكون وما هو كائن، المثال والواقع، الواجب والممكن. المهم اللحاق بالزمن. فمن دواعي الثورة توقف الزمن. فتأتي الثورة لتدفعه إلى الأمام لتكسب الوقت الضائع، وتلحق بمسار الزمن. وقد يتراجع الزمن، ويندم الناس على ما فات. وتنشأ الحركات الماضوية التي ترى الحل في الرجوع إلى الماضي لأن التاريخ في انهيار مستمر. وهنا تأتي الثورة بقفزة لدفع الزمن إلى الأمام من جديد إيماناً بالمستقبل. فالتاريخ في تقدم مستمر ولكنه ليس متصلًا رتيباً. فتأتي الثورة لتعطيه دفعة جديدة لإسراع الإيقاع أو قفزة حتى يكون التقدم منكسراً إلى أعلى باستمرار. فتحية لثورة التحرير، وتحية لصناديق الاقتراع.