جميل مطر
توقعت أن تكون محاولة فلاديمير بوتين العودة إلى منصب الرئاسة عبر انتخابات ثم استفتاء عملية صعبة ومعقدة . فبوتين اليوم غير بوتين الذي طرح نفسه رئيساً قبل اثني عشر عاماً، وروسيا المزدهرة بالنفط والغاز غير روسيا المعدمة، وأوروبا الساعية إلى وحدة أوثق غير أوروبا المهددة بالانفراط .
وقتها كان لظهور بوتين على مسرح السياسة الروسية مغزى لدى الرأي العام الروسي، فقد خرج رجل الكرملين المغمور من رحم جهاز المخابرات الروسي منذ أن كان يتحكم في كل صغيرة وكبيرة في الإمبراطورية السوفييتية، وهو الجهاز الذي احتفظ بنفوذه وقوته في وقت شهد انهيار معظم مراكز القوة في موسكو مع سقوط الشيوعية وانفراط الاتحاد السوفييتي .
جاء بوتين يحمل راية إنقاذ روسيا من الفساد الذي عمّ البلاد خلال مرحلة الانتقال من نظام شيوعي إلى نظام حرية السوق، وهي المرحلة التي شهدت بيع الثروة الروسية بأثمان بخسة إلى عدد محدود من الأفراد .
لا أحد من قادة الفكر والسياسة في روسيا، كما في الغرب، ينكر أن خبراء أمريكيين خاصة وغربيين بصفة عامة قادوا عملية ldquo;تفكيكrdquo; روسيا وإثارة الفوضى في ربوع فضائها الاقتصادي والاجتماعي، ما دفع مؤسسات الأمن القومي التي حافظت على وجودها ومكانتها، وفي مقدمتها، جهاز المخابرات وبعض أجهزة المؤسسة العسكرية، إلى التدخل لوقف الانهيار . وهو ما فعله فلاديمير بوتين مستعيناً بالأساليب الديمقراطية التي وضعت أسسها في المرحلة الانتقالية، بعد أن أضاف إليها من عنده ابتكاراً مشتقاً من تقاليد السياسة في روسيا .
جرى العرف في روسيا، منذ أيام القياصرة وحتى آخر عهود الشيوعية، أن يستمر الحاكم في الحكم إلى آخر يوم في حياته، وعلى أن يحكم من ورائه أشخاص يعيّنهم بنفسه، لا يغيبون عن ناظريه ولا يتصرفون بغير أوامره، هكذا فعل القياصرة، وهو بالضبط ما كان يفعله أمناء الحزب الشيوعي السوفييتي ابتداء من جوزيف ستالين في عام 1929 وحتى بدء المرحلة الانتقالية في مرحلة ldquo;بريستيرويكاrdquo; .
ابتكر بوتين فكرة أن يحكم لمدة رئاسية، يعرف مقدماً أنها، حسب دستور المرحلة الانتقالية، غير قابلة للتجديد، ثم يدخل تعديلاً عليها لتصبح فترتين على ألا ينطبق التعديل عليه في الولاية الأولى . اختار رئيساً للوزراء يعتمد عليه ويثق به، ليصير من بعده رئيساً للجمهورية، ويتخلى بعد انقضاء مدته القانونية، ليتقدم بوتين للمنصب محله . وليقضي فيه فترتين كاملتين، هكذا يكون بوتين قد حكم روسيا 24 عاماً، منها ستة أعوام كان رئيساً للوزراء خاضعاً، شكلاً فقط، لرئيس جمهورية من اختياره .
رأينا بوتين خلال الأيام الماضية يرشح نفسه رئيساً للجمهورية معتمداً على سمعة الحزم التي اشتهر بها وقدرة حزبه السياسي (روسيا المتحدة) على الفوز بأغلبية مقاعد ldquo;الدوماrdquo;، وعلى اعتقاده الراسخ أن الأغلبية الكاسحة من شعب روسيا تفضل الاستقرار مع بعض الفساد وكبت الحريات على تبدل الحكومات وهيمنة بارونات الفساد، وتفضل أيضاً حرية معتدلة للسوق تحت حكم بوتين عن عودة إلى سيطرة القطاع العام والاقتصاد الموجه تحت حكم الحزب الشيوعي .
* * *
لم تأت الرياح بكل ما اشتهاه بوتين، فقد ظهر أن الشعبية التي تصور أنها مستمرة تراجعت، وأن قوى الاحتجاج على عودته أشد وأقوى مما راهن ضده . وضع بوتين في حساباته جميع الاعتبارات ورسم لها خططاً للمواجهة والتصدي، ولم يعلن نيته في إعادة الترشيح إلا عندما بات واثقاً بأنه قادر على التغلب على عقبات بسيطة هنا أو هناك . ولعله بالفعل أفلح في حشد أغلب القيادات المؤيدة له في البرلمان والبيروقراطيه والإعلام وأجهزة المخابرات والمؤسسة العسكرية . إلا أن بوتين مثل غيره من الزعماء ذوي القابلية الشديدة للاستبداد لم يشأ أن يترك للمصادفة أي احتمال بصحوة للمعارضة السياسية تؤثر في نتائج الانتخابات . لذلك سمح لأجهزة الانتخابات بالتدخل في العملية الانتخابية بالشكل الذي يضمن فوز حزبه فوزاً ساحقاً .
فات بوتين أن يتعظ من تجارب غيره، وأن يقرأ بصورة جيدة حال روسيا في الداخل وحال العالم من حوله . فاته أيضاً أن يضع ضمن حساباته ldquo;ثوراتrdquo; الربيع العربي . أكتب وأنا مقتنع تماماً بما كتبه جوزيف ستيجليتز الأستاذ في جامعة كولومبيا والحائز جائزة نوبل في مقال نشر خلال نوفمبر/تشرين الثاني الماضي تحت عنوان ldquo;عولمة الاحتجاجاتrdquo; . كتب يقول إننا نعيش في عصر تنتقل فيه الاحتجاجات عبر الحدود تماماً، كما كانت تنتقل الأفكار في القرن الماضي . حلت الاحتجاجات محل الأفكار . ففي عام واحد انتقلت الاحتجاجات العربية التي بدأت في تونس والقاهرة عبر حدود دول وقارات لتصبح ظاهرة عالمية . تصرف بوتين كما تصرف من قبله مبارك في آخر انتخابات جرت في عهده . لم يقرأ بلاده جيداً أو قرأها ولم يفهمها . زين العابدين بن علي وباباندريو وثاباتيرو وبشار الأسد لم يكونوا أفضل . بهذا المعنى نستطيع تقدير الصعوبات التي سوف تواجه بوتين في تحقيق غايته في الأيام والأسابيع المقبلة . لقد وصلت رياح الثورة إلى العاصمة الروسية، عبرت حدود روسيا قادمة من أوروبا الغربية أو صاعدة من الشرق الأوسط . موسكو مثل عواصم ومدن أخرى كثيرة في العالم تردد هذه الأيام صيحات ldquo;الربيع العربيrdquo; وشعاراته .
* * *
نستهين بقدرة ثوراتنا على التغيير والانتشار في ظل ldquo;عولمةrdquo; لا تترك الشيء على حاله أو في مكانه .
التعليقات