عبدالوهاب بدرخان

كانت سنةً واعدة لكن موجعة. كانت سنةً نتعلّم منها ونتذكرها. السنة التي اكتشف فيها المستبدّون، متأخرين، ما لم تقله لهم تقارير البصّاصين: انهم غير محبوبين، على عكس ما يعتقدون، وغير مرغوب فيهم اطلاقاً، وأن رحيلهم حتمية محبّذة. السنة التي اكتشف فيها الشعب أنه laquo;يريدraquo;، ولو ان الخيارات والبدائل التي ارتسمت أمامه ليست بمستوى الطموحات. السنة التي اكتشف فيها أنصاف الطغاة المستمرّون والطغاة المتستّرون والطامحون للطغيان أن مغامراتهم لم تعد مضمونة بعد الآن. وأخيراً السنة التي اكتشف فيها الغرب أن مفاهيم الموروث الاستعماري فقدت صلاحيتها، وأن عليه نيل مصالحه من دون أن يحتقر الشعوب أو يعتبرها بلا كرامة وغير مؤهلة للحرية أو يخصّب الاستبداد في حكام فرديين لإخضاعها.

كان نمط السقوط أو الانهيار عاكساً لمستوى الدولة والمجتمع، ولمدى قوة الاستبداد أو هشاشته، كذلك لشخصية المستبد وارتباطه ببلده، ولا شك في أن أخطرهم هو أكثرهم سفكاً للدماء... رأينا الرئيس التونسي الذي يتدبّر له أعوانه رحلة بلا عودة أملاً بالحلول محله، فكان الجيش لهم بالمرصاد. ورأينا الرئيس المصري يرمي أوراقه الواحدة تلو الأخرى أمام الشاشة أملاً في الحفاظ على من أصبحوا لاحقاً laquo;فلولهraquo;، لكنه اضطر لأن يرحل ثم استُقيل قبل أن يعود الى قفص الاتهام. ورأينا الرئيس الليبي يدمّر ويقتل ويلقي سيلاً من الخُطب ولا أحد سواه يصدّق ما يقوله، ثم يتذوّق للحظات مرارة التنكيل قبل أن يُقتل ويُعرض لمن يريد الرقص على جثته ثم يدفن في لا مكان في جوف الصحراء. ورأينا الرئيس اليمني يداول المناورة والقتل ثم المراوغة مع القتل فالدهاء فالرضوخ وتوقيع (التنازل عن الحكم) فالقتل مجدداً والقتل ثانيةً وعاشرةً من دون أن يتضح أيّها سيكون ختام القتل. ولا نزال نشهد الرئيس السوري يعاند الشعب والعالم، يخالف منطق التاريخ والطبيعة الانسانية، بل يعتقد أن إشعال المنطقة ورقة رابحة ستُكسبه استمرار نظامه، اذ تحوّل جهازه الأمني عصابة من القتلة المطلوبين دولياً، وها هو يهدد شعبه بـ laquo;القاعدةraquo;، يستقوي بها ويستخدمها كما فعل دائماً في مناورة جديدة ليبقى في المنصب، من دون ان يعرف لماذا يبقى بعدما تلاشت السطوة وسقطت الهيبة.

السنة لم تنتهِ بعد. بقي منها ما يكفي النظام في سورية ليزهق بضع عشرات زائدة من الأرواح علّ نزواته تستكين، أو ليحتفل بسنة جديدة موصولة بسابقتها بالدم. ها هو قد ودّع مرحلة laquo;الشبيحةraquo; ليستهلّ مرحلة laquo;القاعدةraquo;. وهذه لعبة كانت متوقعة، بل مكشوفة: فبعد نظام البعث لا بد من أن يأتي نظام laquo;القاعدةraquo;، والسيناريو العراقي لا يزال حيّاً وشاهداً. فاذهبوا أيها المفتشون العرب الى المتاهات القاعدية. كانت دول كبرى فائقة التجهيز والتسلّح سبقتكم اليها فضاعت فيها وأخفقت. ظننتم أنكم قادمون الى بلد يملك نظامه المتهاوي ارادة لوقف دورة الدم التي أطلقها قبل عشرة شهور، فإذا بكم مدعوون الى وليمة العنف الأكبر.

زاد القتل بوتيرة هستيرية لأن النهاية اقتربت. زاد العنف بعد التوقيع على laquo;بروتوكول المراقبينraquo;. سجّلت laquo;القاعدةraquo; دخولها على الخط، صدفة أو ميعاداً، في اليوم والساعة والمكان التي أرادها النظام تحية لـ laquo;طليعةraquo; المراقبين بعد ساعات على وصولها، اذ هاجمت مقرّين أمنيين في دمشق نفسها، كي يفهم من يريد أن يفهم أن النظام السوري كان ولا يزال هدفاً للارهاب بل laquo;ضحيةraquo; له. فـ laquo;القاعدةraquo; بلا وجوه، هي كل أحد ولا أحد، لا آليات عسكرية لها كي تسحبها، ولا معتقلين مطلوب منها الإفراج عنهم، ولا تميّز بين مدنيين وعسكريين، ولا بين مبنى laquo;ادارة المخابرات العامةraquo; الذي زعم laquo;أنهاraquo; استهدفته بالهجوم وبين أي ساحة في حمص أو حماه. ولا تعني laquo;بصمات القاعدةraquo; التي رصدها النظام في تفجيري دمشق سوى أنه يقترح وجود علاقة للتنظيم الارهابي بالانتفاضة الشعبية أو حتى بـ laquo;الجيش السوري الحرّraquo;، أما النظام نفسه فيجهل كل شيء عن هذا التنظيم ولا يعرف كيف كانت عناصره تأتي الى الأراضي السورية فتجد من يستقبلها ويفرزها ويصنّفها ويُخضعها لتدريبات أولية ويمنحها تسهيلات ثم يضعها على الدروب السرية التي تقودها الى داخل العراق أو يسرّب بعضاً منها الى لبنان أحياناً، ويبدو الآن - والله أعلم - أنها أو أن قادتها اتخذوا من تلقائهم قراراً بسلوك تلك الدروب في اتجاه الإياب الى laquo;المصدر الأمraquo;، أي الى داخل سورية لتضرب من استقبلها وألجأها ودرّبها ووفّر لها تسهيلات. هذه، اذاً، laquo;قاعدةraquo; بلا أي وفاء أو حتى اخلاقية!

لم يكن توقيع laquo;البروتوكولraquo; مع العرب من أجل وقف العنف، بل لتجنّب توجّه العرب بمبادرتهم الى مجلس الأمن، فيكون على النظام السوري عندئذ أن يخضع لمعايير الأمم المتحدة في المراقبة، بأعداد وخبرات وتجهيزات أكبر وأدقّ وبقواعد أكثر صرامة لحماية المدنيين وبمسؤوليات على الدولة laquo;المضيفةraquo; لا يمكنها مخاتلتها، وإلا فإن التقارير ستترجم بعدئذ بإجراءات عقابية. ووقف العنف له وجهة أولية لا بدّ منها: أن تسحب السلطة أوامر سبق أن أعطتها وأجازت فيها القتل، بمعزل عن وجود أو عدم وجود مراقبين. لكن هذا يحتاج الى عقل أمني آخر، لا يلجأ الى laquo;الشبيحةraquo; احتيالاً، ولا يسوّغ لنفسه الاستهانة بحياة مواطنين. في غياب عقل أمني سويّ، وما دام النظام سجّل رضوخه الأول لضغوط الخارج، حتى لو كانت عربية، كان لا بد من الانتقال الى الخطة laquo;بraquo;: فلتخرج laquo;القاعدةraquo; من جحورها... وليكن هذا هو التنازل الأول والأخير، ونهاية التعريب والتدويل معاً، أما التعريب فمصيره أن يُدجّن، وأما التدويل فكل من يحاول الدفع اليه سيعرف أنه ذاهب الى مقارعة عمياء مع laquo;القاعدةraquo;.

وصل المراقبون متأخرين جداً، قليلي العدد، وبصدقية محط اختبار، ليجدوا في استقبالهم سلطة موتورة، منهكة ومتأهبة لارتكاب المجزرة التي توعّدت حمص بها. المراقبون جاؤوا الى بؤرة يقعون فيها بين نارين: الأمنيون و laquo;الشبيحةraquo; من جهة، والجنود المنشقّون من الجهة المقابلة. يحتاجون الى معجزة كي يبلغوا الأماكن المراد معاينتها، والى اعجوبة كي يتمكنوا من التحرك، ذاك أن حمص باتت في لجّة مواجهة مذهبية لا رحمة فيها. عشرة شهور من ضغط النظام ووحشيته كانت كافية لإزهاق laquo;سلميةraquo; الانتفاضة، ومع ذلك اذا سحبت الدبابات وجحافل الأمنيين، فإنها قد تستعيد في لحظة تظاهرها السلمي حقاً. يحتاج المراقبون، وفق الأمين العام للجامعة العربية، الى اسبوع للتأكد من أن النظام ينفذ التزاماته. ليس ببضع عشرات المراقبين تستطيع الجامعة رصد ما يحدث في أكثر من عشر مدن وعشرات البلدات، كان يفترض تجهيز مئات المراقبين وإرسالهم معاً، فوراً ودفعة واحدة. ثم ماذا بعد الاسبوع، اسبوع آخر؟ وماذا عن البنود الأخرى عدا وقف العنف، ماذا عن اطلاق المعتقلين وعن الإعلام الخارجي؟ كان النظام واضحاً في أنه معنيٌ اضطراراً بـ laquo;بروتوكول المراقبينraquo; وليس بـ laquo;المبادرة العربيةraquo;. اذاً، ليس في الأفق تحرك سياسي لمواكبة عمل المراقبين، وفي أي حال ليس النظام من يراهن على نجاح مهمتهم.