عبد الباري عطوان
هناك اجماع في الشرق والغرب، داخل مصر وخارجها، في امريكا والعالم العربي، على ان حكم الرئيس حسني مبارك قد انهار، وان رأس النظام يجب ان يرحل ومعه حاشيته، الشخص الوحيد الذي يشذ عن هذا الاجماع هو الرئيس مبارك نفسه. فالرجل يتشبث بالحكم بعناد منقطع النظير، وكأنه ملتصق بكرسي العرش بأشد انواع الغراء قوة وصلابة.
نعرف جيداً ان الرئيس مبارك بطيء الحركة والفهم معاً، ولكننا نعرف ايضاً انه يتمتع بحاستي سمع ونظر جيدتين، ولا بد انه شاهد الملايين، عبر شاشات التلفزة على الاقل، يطالبون برحيله، مثلما سمع الهتافات التي تندد به وبحكمه.
الرئيس مبارك اتبع، وعلى مدى ثلاثين عاماً من حكمه 'سياسة الصفر' اي عدم الحركة الى الامام او الخلف، والثبات في مكانه حتى لا يخطئ، او يثقل كاهله بعناء التفكير ودراسة الاحتمالات الضرورية قبل اتخاذ اي قرار، ولكن هذه السياسة هي التي اوصلت مصر الى حالة الهوان الحالية، وهي التي وضعته في هذا الموقف الحرج والمخجل في الوقت نفسه.
هناك تفسير واحد لـ 'تناحة' الرئيس مبارك التي نراها حالياً تتمثل في تحصنه في قصره، ورفضه الاصغاء للغالبية الساحقة من شعبه ومطالبها بالرحيل، وهو ان البطانة المحيطة به مازالت تضلله، وتحجب عنه الانباء السيئة، بل ربما ذهبت الى ما هو ابعد من ذلك، وابلغته ان المليوني انسان الذين تجمعوا في ميدان التحرير في قلب القاهرة، يتظاهرون تأييداً له، ويهتفون بحياته.
الرئيس التونسي زين العابدين بن علي التقط الرسالة، وكذلك فعل الملك فاروق من قبله، ولا ننسى شاه ايران ايضاً، فقد قرروا جميعاً اختصار مدة معاناتهم الشخصية، ومعاناة شعبهم الرافض لهم والرحيل الى اقرب ملاذ آمن. الوحيد الذي يشذ عن هذه القاعدة هو الرئيس مبارك.
مصر شاهدت مظاهرتين شارك فيهما الملايين، الاولى طالبت الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بعدم التنحي بعد هزيمة عام 1967، مؤكدة على الثقة به ووطنيته، والثانية نراها حالياً في معظم المدن المصرية، تطالب الرئيس مبارك بالتنحي، وتسحب منه ومن حكمه الثقة.
' ' '
نزول الملايين الى الميادين الرئيسية في المدن على طول مصر وعرضها، وانضمام النخب السياسية والعلمية والفنية المرموقة اليها في مطالبها بعهد جديد يعيد لمصر رونقها وكرامتها وريادتها، هذا النزول الذي تحقق في ظل غياب الانترنت وحجب 'التويتر' و'الفيس بوك' يؤكد ان اساليب النظام المتهاوي في التضليل والقمع والحجب لم تعط ثمارها، وان عزيمة الشعب وارادته هما الاقوى.
النظام المصري يراهن على تعب الشارع، وانتصار عصابات البلطجة التي تعمل في خدمته، ولكن هذا الرهان محكوم عليه بالفشل، فالثورة التونسية التي انطلقت من مدينة سيدي بوزيد، وامتد لهيبها الى مختلف انحاء البلاد استمرت لما يقرب من الشهر، ولم تتأثر عزيمة الشعب التونسي ولو للحظة واحدة من جراء اطلاق الرصاص الحي وسقوط مئة شهيد على الاقل.
ثورة الشارع المصري دخلت بالامس اسبوعها الثاني اكثر قوة وعزيمة واصراراً على اطاحة النظام، واظهرت تضامناً اجتماعياً وسياسياً غير مستغرب من هذا الشعب العظيم. كان جميلاً ان نرى اصحاب المحلات والمطاعم البسطاء يقدمون الطعام والشطائر مجاناً، للمعتصمين في ميدان التحرير، هذه هي الاصالة العربية الاسلامية في انصع صورها واشكالها.
الانظمة المستبدة عصية على الاصلاح، فقد ادمنت الفساد والقمع والبطش، واذلال مواطنيها، واي حديث من قبلها بالاصلاح، تحت ضغط الانتفاضات الشعبية هو محاولة مكشوفة لكسب الوقت، واعادة شحذ الاسلحة لذبح الانتفاضة وقطع رؤوس المشاركين فيها.
المثال الأبرز على ما نقول هو ما طرحه امس الاول اللواء عمر سليمان نائب الرئيس من عروض للتفاوض مع المعارضة، واستعدادات للنظر في الطعون المقدمة من قبلها في تجاوزات في بعض الدوائر الانتخابية، بعد الاعتراف بان هذه التجاوزات غير قانونية.
سبحان الله، الشعب يطالب باقتلاع الحكم من جذوره، ويرفضون التفاوض معه باعتباره فاقد الشرعية، ويطالبون برحيله دون تردد، والرئيس مبارك يتحدث عن تجاوزات وطعون، وكأنه يعيش في كوكب آخر يبعد عن مصر مليارات الساعات الضوئية.
والاسوأ من ذلك الحكومة الجديدة التي شكلها الرئيس مبارك واقسمت يمين الولاء امامه كإحدى خطواته الاصلاحية، فهذه الحكومة ابقت كل الوزراء المكروهين شعبيا، واستبعدت بعض الوزراء المنتجين أو لعلهم رفضوا البقاء في سفينة الحكم الغارقة.
' ' '
اصلاحات الرئيس مبارك منتهية الصلاحية مثل نظامه، علاوة على كونها جاءت في الوقت الضائع. وحتى عروضه التي يسربها بعض المقربين منه بانه لن يترشح في انتخابات الرئاسة المقبلة في ايلول (سبتمبر) المقبل لن تغير من هذا الواقع شيئا، وستقابل بالرفض من قبل الشعب المصري. فالرئيس التونسي تقدم بالعرض نفسه ولم يجد من يستمع له او يصدقه.
الادارة الامريكية التي وصل مبعوثها بالامس الى القاهرة تريد امتصاص الثورة الشعبية من خلال اقناع الرئيس مبارك بالرحيل للحفاظ على بقاء نظامه، والتزاماته تجاه اسرائيل وامنها، وهذا خيار يجب ان يقابل بالرفض، لان اي شروط خارجية تعرقل عملية التغيير وتحرفها عن مسارها ستؤدي الى نتائج كارثية على مصر والمنطقة بأسرها.
اللواء عمر سليمان امتداد للنظام الحالي مثلما كان الرئيس حسني مبارك امتدادا لنظام الرئيس محمد انور السادات، بل انه جاء امتدادا اكثر سوءا، واكثر ارتماء في احضان اسرائيل، وتنفيذا لتعليماتها.
الجيش المصري يجب ان يتحرك ويلعب دورا اكثر ايجابية، فالقول بانه لن يطلق النار على الشعب جيد، ولكنه لا يكفي.. يجب ان يحزم الجيش امره، وينحاز كليا للشعب، وينفض يده من النظام كليا.
ما نطالب به ان تذهب قيادة هذا الجيش تماما مثلما فعلت نظيرتها التونسية، وتعطي الرئيس مبارك مهلة لا تزيد عن ثلاث ساعات بالرحيل قبل اغلاق المطار والاجواء المصرية كليا. ثم يتولى الجيش الامن في البلاد، والاشراف على تشكيل حكومة وحدة وطنية تشرف على الاعداد لانتخابات حرة نزيهة لاختيار برلمان ورئيس جديدين.
هل يفعلها الجيش المصري حفاظا على صورته الوطنية المشرفة، وانتصارا لمصر وشعبها؟ هذا ما نأمله وبأسرع وقت ممكن.
- آخر تحديث :
التعليقات