علي سالم

إنهم يقولون.. ماذا يقولون؟.. دعهم يقولون
الشرق الأوسط
حدثت مظاهرات في مصر، في وقت وجزء منها، كان يسودها ضبط النفس من الجانبين، المتظاهرون ورجال الأمن. وفي وقت آخر سادها العنف فسقط القتلى والجرحى من الجانبين، وفي الصباح ظهرت صحيفة شهيرة بل لعلها الأشهر بعنوان كبير يقول: مظاهرات في لبنان.
في مكان ما بين مظاهرات الشارع في المدن المصرية، وعنوان الجريدة الرئيسي الذي يتكلم عن المظاهرات في لبنان، تكمن الحقيقة، حقيقة ما يحدث في مصر على جبهة الإعلام وربما في مجال الثقافة بوجه عام. بل ربما كانت حقيقة ما يحدث كاملة في العنوان نفسه، تحدث المظاهرات في مصر غير أن رئيس التحرير يرى فقط المظاهرات في مكان آخر.. في بيروت.
في المصطلح الشعبي في مصر يقولون laquo;شوف بعينك وانظر بقلبكraquo; أي أنه لا يكفي أن ترى بعينيك ما يحدث، بل عليك أن تشكر قلبك في الرؤية، القلب هنا بمعنى كل القيم الإنسانية وكل الاهتمام، عيناك ليستا مجرد عدستين مركبتين في وجهك، بل هما أداة متصلة بالقلب، وعندما لا ترى ما يحدث في المدن المصرية وترى فقط ما يحدث في بيروت فأنت - في القليل - تخون وظيفتك التي هي نقل المعرفة كما هي وكما تراها بعينيك، لقرائك.
يقول المناطقة عن قانون العلية العام (The universal law of causation) أن لكل علة معلول يدور معها وجودا وعدما. هناك سبب لكل فعل، سبب يعقبه الفعل، غير أن بعض الفلاسفة يشكون في هذه الحقيقة البسيطة التي تبدو واضحة كل الوضوح ويقولون: لا يوجد في العقل ما يؤكد أن ما يحدث أولاً هو السبب في ما يحدث بعد ذلك، هي ليست علاقة سببية، بل علاقة تجاور.. ولذلك أعطي لنفسي الحق في أن أقول، لم تكن المظاهرات هي السبب في كتابة ذلك العنوان الفج في الصحيفة الأشهر، بل كان العنوان هو السبب في المظاهرات والدفاع إليها بالرغم مما يبدو على السطح من أن المظاهرات حدثت أولاً.
اعطني الفرصة لأثبت لك وجهة نظري؛ العنوان ليس مجرد كلمات مطبوعة، بل هو طريقة تفكير سائدة، ثقافة عامة عند معظم العاملين في حركة الثقافة والإعلام، التي يمكن أن نطلق عليها اسم laquo;الإنكار العامraquo; التي يمكن تلخيصها في laquo;إنهم يقولون.. ماذا يقولون؟.. دعهم يقولونraquo;.
ولكن بقليل من المعرفة بالتاريخ، كان يجب على نظار هذه المدرسة ومنظريها، معرفة أن الناس عندما تقول، فهي لن تظل تقول إلى الأبد، إذ لا بد أن يأتي اليوم الذي يخرجون فيه إلى الشارع. بالثقافة العامة أنا أعني كل ما يتغذى عليه العقل والقلب، الثقافة العامة هي الرأس في جسم المجتمع، والسمكة تفسد من رأسها، فساد الثقافة العامة يتسلل من الرأس إلى الجسد فيفسده كله. فساد أي مجتمع لا تحدثه غياب الأفكار الصحيحة، فلم يحدث أن غابت يوما من أي مجتمع، ما يشيع الفساد هو انتشار الأفكار الخاطئة. ومن الأفكار الخاطئة أن الدولة عينت المسؤولين في أجهزة الإعلام والسياسة، وأوكلت إليهم مهمة واحدة هي أن يخدعوها ويخدعوا الناس. وكأنهم عند حلف اليمين أقسموا على: أن يتجاهلوا كل الحقائق حرصاً على عدم إزعاج قياداتهم السياسية، وسيقولون لهم وللناس كل ما هو مفرح ومريح، وسيقولون للمتظاهرين في شوارع القاهرة، لم يحدث أن تظاهرتم.. لقد حدثت المظاهرات في بيروت، كان الله في عون لبنان. أرجو أن تكون قد سمعت بالمثل الشعبي الذي يقول laquo;يا بخت من بكاني وبكى الناس علي، ولا بخت من ضحكني، وضحك الناس عليraquo; كلمة يا بخت هنا بمعنى (طوبى) أي طوبى لهؤلاء الذين صارحونني بكل الحقائق المزعجة لكي أتمكن من التعامل معها، وتعسا لهؤلاء الذين أخفوها علي لكي لا يقلقوا راحتي.
ماذا تقول عندما يصدر قرار بتعيين كاتب هذه السطور وزيرا للصحة، أو رئيساً للمصانع الحربية، أو وزيرا للبترول، بالتأكيد ستستولي عليك نوبة ضحك قوية، وأنت تقول: وهو فلان ماله ومال الحكاية دي؟.. يفهم فيها إيه..؟
غير أنك لن تشعر بالصدمة أو حتى بالدهشة عندما يتم تعيين شخص في مركز إعلامي خطير بينما صحيفة سوابقه خالية تماماً من أي سابقة إعلامية أو ثقافية. من المستحيل أن تقوم بتعيين حارس لحقل مصاب بداء النوم، مستحيل أن تطلب من ساعي في مكتبك أن يعطيك حقنة في الوريد، غير أنك ستقوم بتعيين نفس الشخص مسؤولاً عن حقن المصريين جميعا بكل ما هو سخيف وعبيط من الكلمات.
أعتقد أن السبب في ذلك هو أننا نستخدم أدوات عصر قديم في التعامل مع عصر جديد اختلفت وسائله وأدواته جميعا. ما زال رجال ثورة يوليو يحكموننا من قبورهم، يوم كانت الحقائق هي فقط ما يقولونه لنا في جرائدنا الثلاث التي لا جرائد أخرى تزاحمها، وهي أيضاً ما يقولونه لنا في برامجنا التلفزيونية التي لا برامج غيرها. ومع ذلك أعترف - لكي لا أقع في فخ الإنكار - بأن رجال يوليو كانوا يحرصون على اختيار أفضل العناصر المتاحة في الأسواق للعمل في المراكز القيادية في الإعلام والثقافة. ربما كان السبب في ذلك أنهم كانوا يدركون خطورة الثقافة والإعلام، خطورة فساد رأس السمكة ثم انتقال هذا الفساد للجسم كله.
التكنولوجيا المعاصرة جعلت من الكرة الأرضية قرية واحدة بالفعل، وأصبح من الطبيعي ومن الحق أيضاً أن يشعر الشباب في مصر بالتوحد مع شباب العالم كله، وأن من حقه أن يحيا في عالم متقدم يعطيه فرصة في التقدم. لا توجد الآن طريقة على وجه الأرض لحجب معلومة من المعلومات أو حتى تعطيل وصولها لبعض الوقت. حتى أسرار الدول وأسرار المسؤولين التي كنا نظنها محصنة ضد التسريب والتسرب، عرفت طريقها إلى شاشات التلفزيون والإنترنت. هذا هو عصر الوضوح والشفافية، وضوح الفكرة هو سكة السلامة.
الأمر لا يتطلب معجزات، أنا اعترف بأنني لا أفهم في المقاييس التي يجب استخدامها عند تعيين وزير للصناعة مثلاً، غير أنني أفهم في مهنتي، مهنة رأس السمكة، أي مصنع التفكير، وأفهم في كيفية دوران ماكيناته من أجل الحصول على الفكرة الصحيحة التي تعرف طريقها فقط إلى رؤوس الناضجين من البشر.
في غياب أشخاص يتسمون بالنضج في مجال الثقافة والإعلام سنتوه في ظلام الدنيا، وفي وجود قيادات ثقافية وإعلامية استولت عليهم درجة عليا من النرجسية حتى أنستهم واجباتهم، سنأخذ مصر وندخل بها في الحائط.
الغضب المصري... أكثر من مجرد بداية
هاني درويش
الحياة
أربع صور ناتجة عن يوم الغضب المصري تخضع الآن للتحقيق المجهري، جنباً إلى جنب مع تنشيط الملفات الأمنية بما يستوعب إدخال عشرات الآلاف من المواطنين العاديين في فئة laquo;النشطاء الخطيرينraquo;، وهو مجهود مضاعف ولا نكاد نصدق تبعاته على جهاز الأمن المصري التليد. أما عن الصور، كما ظهرت على منتديات الـ laquo;فايسبوكraquo; وتناقلتها وكالات الإعلام المحلية فهي:
صورة أم شابة محجبة تحمل طفلين على ذراعيها بمنتهى العزم، ومن دون اضطراب أو خوف أو وجل، في منتصف شارع التظاهر. حتى الطفلان لا يبدو عليهما الخوف بل يبدوان وكأنهما في رحلة خلوية، فيما خلفها عن بعد يقبع رجال الأمن المركزي. لم تضع يدها على أعينهما مثلاً أمام شاشة التلفزيون مخافة انتقال العنف إليهما. ربما كانت مارة عفوياً في شوارع العاصمة التي خلت في إجازة إجبارية ابتدعها النظام، أو عابرة على رصيف كثيراً ما اشتهر بعشرات المتظاهرين المسجونين في فورمالين laquo;المعارضة المعروفةraquo;.
لكنها، والحق يقال، وجدت فرصة لأول مرة في شارع مصري كي تهتف laquo;الشعب يريد إسقاط النظامraquo;. ستذهب إلى البيت بولديها وهي تهتف، لن تنسى الهتاف، وسترد بحسم على ملايين الخائفات.
صورة ثانية لمراهق مصري، قد تراه ليلاً عند حاجز تفتيش مرتجل للشرطة يهان بينما يمزق laquo;أمين شرطةraquo; هويته. في الصورة وأمام البرلمان المصري يواجه بوجهه رشاش ماء لمدرعة تحاول تفريق المتظاهرين، يتحدّى لونها الكابي بشعره القصير ويتعلق برشاشها متخيلاً أنه قادر على مواجهة تقدمها. العشرات في المنطقة الفاصلة بين جسد التظاهرة وقوات الأمن ممن واجهتهم المياه والحجارة، يعودون بشجاعة استثنائية ليواجهوا بصدورهم المدرعة التي خافت أن تدهسهم فعادت للخلف. يمتلئ الفاصل بمئات ويعود الجسد التظاهري للضغط على صفوف الشرطة.
هؤلاء الشبان، ممن حسبناهم كثيراً laquo;كتلة غامضةraquo;، نخشى منهم أكثر من خشية النظام أن يخرجوا لنهب سيارات الطبقة الوسطى، أو للتعاون مع الأمن في حرق منشآت عامة قبل ساعات من إعلان حالة طوارئ. الشاب منهم، في هذه اللحظة، يعرف تماماً إلى أي الصفوف ينتمي، وعند أي مفرق سيضحي بجسده لوقف تقدم أعدائه.
الصورة الثالثة لأم مصرية في منتصف الستينات، ذهبت بوجهها المخضب بالانفعال إلى جنود الأمن المركزي تلقنهم درساً في الوطنية، كانت تصرخ laquo;ضيعتوا مصرraquo; وتكاد تصفع من اعتبرتهم أبناءها العاقين. هذه الأم التي انضمت من شرفة حي شعبي قريب، وزّعت العصائر على الشباب، ودعت لهم في صلواتها على رصيف ميدان التحرير ليلاً. الأم التي تذكر حوار laquo;الرئيس المؤمنraquo; في 17 و 18 يناير عن laquo;هوجة الحراميةraquo;، ستحدث عشرات النسوة في الحواري المحيطة عن يوم 25 يناير بما يناقض دعاية laquo;الفئة المندسة الشهيرةraquo;. لقد اندست في عمرها المديد هذا وهي تعاني توليفة من أمراض العصر الرئاسي الجديد، وقد خرجت أماً للعشرات من laquo;ورود الأبناء الحقيقيينraquo;.
الصورة الرابعة لخمسين ألف عامل بالمحلة الكبرى، يحملون الأعلام المصرية والتونسية. يحتلون ميدان الشون الشهير، يضربهم الأمن فيختطفون من قياداته بعض الضباط، يقطعون طريق السكك الحديد بأجسادهم ليحافظوا على صناعة تدخل قرنها الثاني في مواجهة فساد اتفاقية الكويز وتسهيلات الملابس الصينية الرخيصة.
لقد اختفى النظام المصري بقضه وقضيضه. صمت مطبق ألجم رجال حزبه، وزراءه، ومحازبيه من كهنة تلفزيونيين، بل إن سخرية أمين إعلامه التي قدرت عدد المتظاهرين بـ 30 ألفاً، بينما يجلس 80 مليون مصري في البيوت، تم الرد عليها بتقديرات الصحف الأجنبية التي رصدت ما لا يقل عن ربع المليون، والجديد هو تمدد الرقعة الجغرافية التي وصلت إلى 12 محافظة.
كانت سخرية القـــيادي الوحــيد تعبيراً حقيقياً عن رعب. فالفئة المندسة في قاموسهم التي قدرها أحياناً بالمئات، تتحول حتى في مزاعمهم إلى 30 ألفاً. وتحت الصدمة خرج أنفار من مصدوميــهم ليـــشبهوا ما حدث بانتفاضة 68. لقد كان التشبيه إلهاماً حقيقياً لانتفاضة فرزت فعلياً جــيلاً جديداً من الشبان، أخرجتهم من صفحات المنتديات الاجتماعية الافتراضية لأول مرة إلى الشارع الواقعي. فاجأوا ليس النظام وحـــده بل محــترفي الســـياسة الاحتجاجية من حركات انضـــمت في الأيام الأخيرة إلى الدعوة، أحرجوا أحزاباً رسمية وقفت تشاهد، تنظيمات سرية أدمنت تحقير أبناء الطبقة الوسطى، وعلى رغم ذلك لم يخجلوا جميعاً من نسبة الحدث إلى أنفسهم مع استعادة الأنفاس.
خلف هذه الآلاف قبع ملايين غير مصدقين لأول مــــرة انكشاف الخدعة، أن الجمهور المصري سلمي الهوى حتـــى يضربه الأمن، أن هراوات الأمن وهي تبطش بعد منتصف ليلــــة الأربعاء واجهت شباباً لم يحملوا أحجاراً أو مــــدِى أو أسلحة نارية، وأن انتزاع حق التظاهر السلمي يوم 25 يناير لم يكن منحة أمنية فقط، بل تكنيــكــــاً ذكياً فـــرط التظاهرات في الأحياء الشعبية، وأخرج من أحشائها شباناً آمنوا بجدية هتاف laquo;خبز، حرية، عدالة اجتماعيةraquo;، من دون شعارات كـ laquo;الإسلام هو الحلraquo;، أو laquo;عاش كفاح الطبقة العاملةraquo; المندثرة. بدا أخيراً أن الإلهام التونسي ذا الهوى البورجوازي الصغير مقنع إلى حد كسر حاجز laquo;أن السياسة مهنة السياسيينraquo;.
لقد خلق مئات الآلاف لأول مرة خبرتهم الأولى في الشارع، وهم في صباح الأربعاء خرجوا يواجهون عيون الأمن الكاسرة بمنتهى الشموخ، يثرثرون الآن مع ملايين من حولهم ويصدقون laquo;إمكانية الاستحالةraquo;، وسيخرج معتقلوهم بخبرتهم الأولى أكثر تصميماً على تكرار المغامرة، أكثر ثقة بالغد.
وخلف الصور الأربع السالفة، لدى رجال النظام في مصر، آلاف الصور والملفات القابلة للتصنيف الصعب، وخلف مئات الكليبات على الفضاء الافتراضي التي ألهمت عشرات الآلاف من العرب يقبع الدرس لرجال نظام بلا مجال ســـياسي، بلا خرائط للخروج من الأزمة، وكم هائل من الأكاذيب ما عادت تصلح للترويج.