رشيد الخيّون

ربما أول مرة في تاريخ المنطقة المعاصر تهزها انتفاضات بلا إيديولوجيا، وبلا حزب قائد، وبلا شعارات دينية أو قومية مكابرة، بعيدة عن هموم النَّاس ومتطلباتها الآنية: الخبز والحرية والارتباط بالأوطان. عبر منفعة الإنسان مِن وطنه، فالوطن ليس تُراباً وحدوداً ورايةً ترفرف، إنما هو احتضان لمواطنيه، يصبح وطناً إذا quot;أَطْعَمَهُم مِن جُوعٍ وَآَمَنَهُم مِن خَوْفٍquot;(قريش: 4)، فما معنى الوطن الذَّي يكتنز الثَّروة الطائلة ومواطنه جائع مرهق خائف، تلعب في عقله الخُرافة، يُساق بالعصا بحيلة الدِّيمقراطية، التي غدت بالعِراق، حسب بيان لمثقفين، مجرد دورات انتخابات.

دارت بأغلب مدن العِراق مظاهرات احتجاجية، ترفع شعارات عميقة المضمون، خالية مِن لوثة الإيديولوجيا واستغلال المشاعر، فكان المفروض مِن الجماهير التي خرجت في العشرين مِن صفر، على حدِّ رسالة المجتهد علي الأمين إلى العِراقيين، أن يذهبوا لا إلى كربلاء بل عليهم رفع اسم الحسين والذِّهاب به إلى المجالس المحلية المُعطَلة، الغارقة بالفساد وفي جهلها بالإدارة والاقتصاد، متوارية خلف أسماء بلا مضامين، ونعيد الاستشهاد بالمثل العميق بدلالته، والسَّاري عند الأقدمين: quot;لولا الخُبز ما عُبد اللهquot; (الميداني، مجمع الأمثال). لابد مِن إبقاء الإمام الحسين مع النَّاس لا أن تصادره الحكومة نفسها، لتكسب الأصوات في مواسم الانتخابات باسمه، إنما لابد من جعله لافتةً لمطاردة الفاسدين والعابثين بحياة النَّاس. لا يجوز أخذ الحسين لافتة لحزب ديني أو جماعة عقائدية، تهيمن على النُّفوس بشعاره.

لقد تبدلت الدُّنيا، ووصلت التُّكنولوجيا إلى ما يُعجز القوى التَّقليدية باسم الدِّين أو القومية عن مسايرته، فإذا كان المنلوجست العِراقي عزيز علي (1995) هدد حينها بالرَّاديو quot;يفضح الأسرارquot;، فما عساه يقول بالفيسبوك والبريد الإلكتروني، بريد لمح البصر! بدأت التَّظاهرات بالعِراق، عِقب زلزال أبريل 2003، بلا أدوات فالعِراقي لم يكن قد تعرف بعد على أكثر مِن الرَّاديو والتَّلفزيون، وهما ملك السُّلطة، لكن في الاستعداد ليوم 25 فبراير 2011 شأناً آخر، بعد أن بدأ حكم العائلات يُعيد نفسه، الأب والابن والعم وابن الأخ والأصهار، مع أن ما بيننا والسُّلطة العائلية، التي ما زلنا نشتمها غدوة وعشية، أقل مِن عقد مِن الزَّمان، بمعنى أن الذَاكرة ما زالت حيَّة.

وزعت الشُّعارات عبر الفيسبوك، وهناك مِن سلطة بغداد مَن استعد أيضاً، لا بإخراج تظاهرات المنتفعين المضادة، فقد كُشف الغطاء عنها، وإنما بقطع جسر مثلاً بحجة التَّرميم، أو التَّحذير مِن التَّفجيرات، وعدم ضمان الحماية، لكن عندما تكون المواكب إلى مناسبة دينية لهم فيها صالح يجهزون خمسين ألف سيارة وآلافاً مؤلفة مِن رجال الأمن، ويفرغون الدَّوائر مِن موظفيها، فتلك الشَّعائر هي عروتهم الوثقى في لعبة الانتخابات.

إن لساحة التحرير ببغداد تاريخاً عريقاً، وإن تبدلت الأسماء، كانت المنطقة ضمن الحاضرة العَباسية، وينتصب فيها أحد أبواب بغداد التَّاريخية المعروف بباب quot;كلواذىquot;، الذّي تبدل اسمه، في ما بعد، إلى الباب الشَّرقي، وهو أحد أبواب دار حريم الخلافة الأربعة، التي أقامها الخليفة المستظهر بالله (ت 512 هـ) على سور المدينة الجديدة ومنها دار الخلافة: باب السُّلطان شمالاً، وهو باب المعظم، وباب الظَّفرية أو خراسان، وهو الوسطاني، وباب الحلبة، أو الطَّلسم، أما الباب الرَّابع فهو باب quot;البصليةquot; وعُرف بـ quot;كلواذىquot;، لأنه يقع على طريق قرية كلواذى الخصيبة جنوب بغداد، وظل هذا قائماً حتى نقضه أمين عاصمة بغداد أرشد العمري (ت 1982) (جواد وسوسة، دليل خارطة بغداد)، نقضه تحت تأثير الحداثة ومحاربة التُّراث، وكان أحد المقاومين لحداثة هذا الرَّجل هو مدير الآثار ساطع الحصري (ت 1968)، الذي يعود له الفضل بحماية العديد مِن الآثار البغدادية.

كانت كلواذى، حيث امتداد ساحة التَّحرير، مزارع وحقولاً غناء، لكن الخراب امتد إليها في القرن السَّابع الهجري، حسب عبارة ياقوت الحموي (ت 626 هـ) وهي الآن خراب وأثرها باقٍ، بعد أن قال فيها أبو نواس (ت 198 هـ) هاجياً أحدهم: quot;أحين ودَّعنا يحيى لرحلته.. وخلَّف الفِرك واستعلى الكلواذىquot; (معجم البلدان). وبعد حين مُدَّ جسر على دجلة مقابل الباب الشَّرقي، وسمَّي بجسر الملكة عالية (ت 1950) والدة فيصل الثَّاني (قتل 1958)، أُقيمت تلك السَّاحة وعُرفت بساحة الملكة عالية أيضاً، وبعد ثورة 14 تموز قُلبت إلى التَّحرير.

أقيم عليها أهم معلم نحتي معاصر بالعِراق هو quot;نصب الحريةquot;، المستوحى مِن حضارة العراق القديمة، الذّي نحته جواد سليم (ت 1961)، وحسب المعمار رفعت الجادرجي، اٌتفق حينها أن لا يُزين برسم للزَّعيم عبد الكريم قاسم، أو إشارة ما له (كتاب صورة أب)، وهذا على ما يبدو سبب بقائه بعد الانقلابات التي هزت بغداد. وظلت هذه السَّاحة مكاناً لتجمع التَّظاهرات المؤيدة للسُّلطة، بطبيعة الحال، بعد تموز 1968، مرة الطُّلاب في يوم الطالب وأخرى العمال في عيدهم، أو تأييد ضد مؤامرة يُعلن عنها، وكم خَطب مِن على منصتها أحمد حسن البكر (ت 1982) ونائبه صدام حسين (أُعدم 2006). لكن أبشع ما حصل فيها هو تعليق جثامين مجموعة مِن شباب يهود العِراق (1969)، وآخرين مِن مسلمين ومسيحيين، أُعدموا على أنهم جواسيس، وللأسف هناك مَن اعتبره يوم نزهة!

هذا تاريخ ساحة التَّحرير، الذي عمدت إلى الإطناب في التَّعريف به، فلعله يشهد ما يُعيد إلى العِراق مكانته، ويُحقق شعارات الشَّباب، والتي وصلني منها: ألا يكفينا صمتاً! ألا يكفينا صبراً! إننا كالبعير الذي يحمل ذهباً ويأكل عاقولاً، لا لديمقراطية لا تقترن بأرقى الجامعات العالمية والعربية والعِراقية، لا لديمقراطية تجعل النَّاس غرباء في وطنهم وتزيد الغرباء غربةً، لا لديمقراطية تغض النَّظر عن الوزراء مِن سارقي المليارات، لا لديمقراطية تدعو العبد لعبادة الكرسي، لا لديمقراطية اغتالت أرقى العلماء والخبراء والأساتذة ليحل محلهم مَن لم يُكمل quot;دار دورquot; (إشارة إلى الصف الأول الابتدائي)، لا لديمقراطية توعد بالشَّفافية في جو ضبابي، لا لديمقراطية تسرق البنوك وتقتل حراسها. وكان هتاف بابل، التي حُرمت فيها حكومتها المحلية الموسيقى: quot;يا قوى الخير اتساندي لأجل العِراق توحديquot;. أما الدِّيوانية فهتافها: quot;لا مجاري لا دواء وين صار الكهرباءquot;!

يعتقد العراقيون أن ثماني سنوات تكفي للاختبار، وتوجب التغيير، وتنهي مفعول استخدام مساوئ النِّظام السَّابق شماعةً!