عبدالله السويجي
قد يكون الإنسان العربي أكثر رغبة في الهجرة من غيره من البشر في العالم، وقد تكون الجاليات العربية أكثر الجاليات وجوداً خارج بلادها بعد الجاليات الآسيوية . في الواقع، فإن أي إنسان يفكر بالهجرة وترك بلده هو إنسان معارض بمعنى من المعاني . إذاً يهاجر الإنسان بحثاً عن وظيفة، أو حرية أو كرامة أو أمن . يهاجر إذا عجز وطنه عن تحقيق هذه الأمور المهمة، فأول انطباع لدى أي مهاجر لأوروبا أو أمريكا هو إحساسه بإنسانيته، وبوجود قانون يسري على الجميع، وبمعرفته بحقوقه وواجباته . وللأسف، يعرف الإنسان العربي في بلاده واجباته ولكنه يجهل حقوقه، فإن عرفها فإنه لا يستطيع ممارستها أو المطالبة بها، كل ذلك بسبب المحسوبية وعدم المساواة والازدواجية في تطبيق القانون، والتمييز الطائفي، والرشوة وغيرها .
في أوروبا وأمريكا وكندا وأستراليا يقسمون الهجرة إلى أنواع، إنسانية وسياسية واقتصادية، وتتداخل العناصر الثلاثة لدينا، لأننا نعتبر الحقوق الإنسانية هي حقوق سياسية واقتصادية، باعتبارنا كائنات مسيّسة، أما بقية الأجناس فإنها تهاجر هجرة إنسانية، بمعنى أنها لا تجد قوت يومها في بلادها . ولنتخيل بعض البلدان التي يعيش الفرد فيها بدولار واحد يومياً، ولا تتوافر لديه المياه الصالحة للشرب، أو المياه الصحية، ويكاد المرء يخجل وهو يرى الدول الأوروبية تستقبل المهاجرين العرب وتوفر لهم المأكل والمشرب والمسكن والتعليم والمصروف، ليس إنسانية أو رحمة، ولكن تطبيقاً لقوانينها التي تجبرها على فعل ذلك، ولهذا، يعمل البعض على تغيير هذه القوانين .
وما يدل على صعوبة العيش للعديد من الفئات هو مخاطرتهم بأنفسهم وبأرواحهم للوصول إلى (بلاد النعيم)، في الوقت الذي يتم الكشف يومياً عن مليارات يمتلكها تجار وسياسيون تكفي كي يحيا كل فرد عربي في بحبوحة، ومن دون الحاجة لإراقة ماء وجهه في الغربة والمهجر .
إن ما يثير أيضاً، هو تشكيل أحزاب المعارضة في المهجر، ومساندة تلك الدول لجماعات المعارضة بالمال والإمكانات والتجهيزات، وقد وصل الأمر أن استقدمت أحزاب معارضة عربية جيوشاً أجنبية عاثت فساداً وحرقاً بالبلاد، ونهبت خيراته ودمرته وأعادته إلى العصور الوسطى، على الرغم من رداءة وقسوة الأنظمة السابقة التي أزالتها المعارضة واستبدلت نفسها بها، وشرعت في ممارسة السياسات الطائفية والتنكيلية نفسها، بحيث يظهر تساؤل كبير عن هدف المعارضة من قلب نظام الحكم، هل هي مصلحة شخصية أم طائفية أم وطنية؟
إن ما يجدر ذكره، هو أن جزءاً كبيراً من المعارضة الخارجية كان في يوم ما من صلب النظام، حتى إذا اختلف معها تحول إلى معارض وثوري يريد إصلاح النظام أو إسقاطه، فإذا وصل إلى السلطة عاد ليمارس عاداته القديمة .
وبإيجاز، الفقير والطالب والإعلامي والكاتب والعالم من مختلف الطوائف والمذاهب، كلهم يسعون للهجرة وفق حالة البلدان التي يعيشون فيها، فالأقلية المسيحية تواجه ممارسة من المتطرفين الإسلاميين وبالعكس، والأقلية من مذهب معين مثلاً تعاني الأمر ذاته والعكس، ثم يتحول هؤلاء إلى معارضة في بلدان المهجر، وحين يعودون يطالبون بنظام يضمن تمثيلهم، أي يتم تأسيس نظام وفق التنوع الطائفي والعقائدي والمذهبي، وهو أمر قابل للجدل .
منذ سنوات ونحن نكتب عن التنوع الديمغرافي في الوطن العربي، إذ تضم بلدان كثيرة مجموعة من الديانات والمذاهب والطوائف، ولكن السلطات لم تنظر إلى هذه المسألة بطريقة جدية، ولم تستشرف المستقبل أبداً، واعتقدت أن الزمن لا يتغير، على الرغم من رؤيتها أن الزمن يتغير وبسرعة أكبر مما تتخيل، وهي نفسها من تقوم بهذا التغيير، فتدخل أحدث الشبكات الإلكترونية، وأحدث أجهزة الاتصال، متخذة منها تجارة تدر أرباحاً طائلة، وفي ذات الوقت، تمارس، أي السلطات، المدرسة إياها في إدارة البلاد، أي أنها تحكم البلاد بعقلية (ورقية) في الوقت الذي تتحول البلاد إلى نظام (لا ورقي)، لم تلاحظ السلطات العربية وظلت تعتقد أن الزمن لا يتغير، ونسيت أن أصحاب العقائد أيضاً لا يتغيرون وكرامة الإنسان لا تتغير، ولا أحد يقبل بالتفرقة والتمييز، وهذا يعني أن الأزمة متواصلة، ولا بد من ظهورها للسطح يوماً ما، وهذا ما يحدث الآن على وجه الدقة في الوطن العربي، فالتحركات الشعبية تحمل طابعاً دينياً ومذهبياً وإنسانياً واقتصادياً وسياسياً، ويبدو أن الإنسان العربي يصر على العيش في بلاده، وبدأ يرفض الهجرة، على الأقل، بعد أن لاحظ ما يمكن أن يحل به حين تتغير السياسات وتستجد الأحداث، وكلنا يعلم كيف تعاملت أمريكا وأوروبا مع المسلمين بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، إذ لم يشفع لهؤلاء تمتعهم بجنسيات تلك الدول، وإنما عوملوا على أسس عقائدية ومذهبية، وعلى أنهم إرهابيون .
إن معظم الدساتير العربية والقوانين والتشريعات تتضمن مبادئ رائعة تضمن حق الإنسان في التعبير عن رأيه والعيش بكرامة وأمن وسلام، وتضمن له حقوقه الدينية والدنيوية، إلا أن الممارسة تختلف كلياً عما نصت عليه تلك الدساتير والقوانين، فهناك دائماً من هو فوق القانون، وفوق الدستور .
إن الخروج من مأزق الخراب يكون بإعادة النظر في بعض الدساتير والتشريعات والقوانين، ثم تطبيقها بشفافية، ومحاسبة من يتجاوزها أو ينتهكها محاسبة صارمة، من دون النظر إلى منصبه أو لونه أو عقيدته أو جنسه، (فالناس سواسية كأسنان المشط)، و(متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهامتهم أحراراً)، و(لا فرق لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى)، وأقوال وآيات وأحاديث وحكم مأثورة، يرددها المسؤولون أنفسهم في مجالسهم، ويكتبها الطلاب في دفاترهم، إلا أن ترجمتها على أرض الواقع مسألة أخرى .
وللخروج من هذا المأزق أيضاً، يجب إلغاء الجنسيات الجديدة التي بدأ البعض يحملها، وبدأت الحكومات ووسائل الإعلام الرسمية والخاصة بمنحها، إذ قسموا أبناء الوطن الواحد والمجتمع الواحد إلى جنسيات، وهذه التسميات تحفر في تراب البلاد كما تحفر السكين في رمل ناعم، فمن ذا الحكيم الذي سيخرج ويقول للناس، يا أيها الناس، نحن أبناء أمة واحدة، الدين لله والوطن للجميع؟
حين يتم ذلك، قولاً وفعلاً، ستنتهي لعبة المعارضة والموالاة، وسيعمل الجميع من أجل مصلحة الجميع .
التعليقات