صبحي حديدي
بات معروفاً الآن أنّ بشار الأسد أدلى بدلوه في التعليق على الحراك الشعبي في الجزائر واليمن والأردن، وعلى انتفاضتَيْ تونس ومصر (لم تكن انتفاضة 'دوّار اللؤلؤ' في البحرين قد اندلعت بعد)، من خلال الحوار المطوّل مع جاي سولومون وبيل سبيندل، من صحيفة 'وول ستريت جورنال' الأمريكية.
وإلى جانب أنّ سورية ليست تونس أو مصر، وأنّ نظامه محصّن ضدّ 'الميكروبات' بسبب سياسته الخارجية، 'الممانِعة' و'المقاومة'؛ شدّد الأسد على أنّ مشكلة الحاكم العربي تبدأ من انعدام الشفافية: 'لدينا في سورية مبدأ مهمّ أتبناه شخصياً: إذا اردتَ أن تكون شفافاً مع شعبك، لا تلجأ إلى أيّ إجراء تجميلي، سواء من أجل خداع شعبك أو لتحظى ببعض التصفيق من الغرب'.
والحال أنّ أولى ردود فعل الأسد على مخاوف انتقال العدوى إلى سورية كانت سلسلة إجراءات اقتصادية ومعاشية، بينها المرسوم التشريعي رقم 9، القاضي بإحداث 'الصندوق الوطني للمعونة الاجتماعية'؛ وزيادة دعم التدفئة بنسبة 72 في المئة، دفعة واحدة؛ والتلويح بزيادة الرواتب بمعدّل 17 في المئة... لم تكن تجميلية فحسب، بل كانت متأخرة، وأقرب إلى الرشوة. فالمنطق البسيط يفرض أسئلة بسيطة تقلب المعادلة الفعلية وراء هذه الإجراءات، مثل هذه: ألم يكن المواطن بحاجة إلى صندوق المعونة الاجتماعية طيلة عقد ونيف من سلطة الأسد الابن؟ وكيف كانت حال المواطن، إذاً، حين كان دعم التدفئة أقلّ بنسبة 72 في المئة؟ وأين تبخرت الوعود بأنّ زيادة الرواتب سوف تبلغ 100 في المئة، خلال الخطة الخمسية العاشرة التي انتهت العام الماضي؟
في جانب آخر يخصّ تبني الأسد، شخصياً، لمبدأ الشفافية؛ كيف حدث أنّ 'وول ستريت جورنال' نشرت النصّ الكامل لحواره مع سولومون وسبيندل يوم 30 كانون الثاني (يناير) الماضي، في حين أنّ وكالة الأنباء السورية الرسمية، 'سانا'، اسوة بوسائل إعلام النظام الأخرى، المقروءة أو المسموعة أو المرئية، انتظرت يوماً كاملاً، قبل نشر فقرات من الحوار، وليس نشر النصّ الكامل؟ وأية شفافية هذه، إذا كان ما نُشر لا يتناسب البتة مع الحجم الأصلي: نصّ الصحيفة الأمريكية يقع في قرابة 13,740 كلمة، ونصّ وكالة 'سانا' يقارب 980 كلمة؟ وإذا لم يكن الأسد شخصياً وراء إرجاء النشر محلياً، ثمّ تقطيع أوصال الحوار، فمَن الذي اتخذ القرار إذاً؟
بيد أنّ الواقعة ليست الأولى، وقد سبقها 'تهذيب' حوار الأسد مع صحيفة 'نيويورك تايمز' الأمريكية، أواخر 2003، والذي بلغ قرابة 11.280 كلمة في الأصل الإنكليزي، لكنه اختُزل إلى 5,500 كلمة في نصّ 'سانا'. غير أنّ معدّل النصف، تقريباً، في هذا المثال لا يُقارن بمعدّل يقلّ حتى عن 1 إلى 13 في المثال الأحدث؛ وأغلب الظنّ أنّ 'وول ستريت جورنال' بادرت إلى نشر النصّ الحرفي للحوار دون الرجوع إلى الأسد أو مساعديه، فخرج النصّ على هذا النحو الفاضح في التباين، من حيث الحجم أو الأفكار. ويمكن لأي قارىء أن يدرك هذه الخلاصة، بعد تفكيك بسيط لعناصر لغوية صرفة، ولأقوال وأفكار وأحكام، ولأنساق في التعبير والتفكير، تظهر فوارق فاضحة بين النصّين.
ثمة، على سبيل المثال فقط، آراء تخون منطق التفكير السليم الأبسط، كأنْ يقرّر الأسد أنّ الشرق الاوسط يشهد جديداً كلّ يوم، ثمّ يجزم بعدها على الفور بأنّ 'كلّ ما نتحدّث عنه هذا الأسبوع لن تكون له قيمة في الأسبوع المقبل'؛ وكأنه، ضمناً، يصدر حكماً مسبقاً على أقواله هذه، إذا قُرئت بعد أسبوع! أو أن يقول: 'نحن نتعلّم، ولكننا لا نتعلّم إلا من أنفسنا، لأنّ المرء لا يتعلّم من أي أحد في هذا العالم'؛ وكأنّ التعلّم من الآخرين عيب في المطلق، أو كأنّ الـ'نحن' هذه، أياً كان نطاقها الدلالي، جزيرة روبنسون كروزو منعزلة مستقلة عن العالم! أو: 'نحن لسنا توانسة ولا مصريين في نهاية الأمر'، وكأنّ محاورَيْه يجادلان بأنّ السوريين توانسة ومصريون؛ قبل أن يسارع إلى التصحيح فيقول: 'ولكننا أبناء منطقة واحدة'، و'هنالك أشياء كثيرة تجمع بيننا'!
على الأرض، في المقابل، بدأت تتضح تدريجياً أنساق 'الشفافية' التي يزعم الأسد أنّ نظامه محصّن بها ضدّ الاحتجاج الشعبي، وتجلّت نذر رفع وتيرة القمع في طرائق تفريق الاعتصام التضامني مع انتفاضة مصر، أمام السفارة المصرية ثمّ في حيّ باب توما. ورغم أنّ المعتصمين لم يتجاوزوا المئة، ولم يحملوا سوى الشموع، ولم يردّدوا أيّ هتاف؛ فإنّ الأمن السوري حشد أضعاف أعدادهم، وتحرّك بعنف بالغ، فيزيائي ولفظي، ولجأ أيضاً إلى استخدام عناصر أطلقت على نفسها تسمية 'البلطجية'، في اقتداء صريح بما جرى في مصر.
أمّا قمع التضامن مع الشعب الليبي، فقد اقترن بلغة سباب وشتائم مقذعة، فضلاً عن رسالة تهديد اختصرها أحد ضباط الأمن في التالي: 'هل تحتجّون الآن ضدّ معمّر؟ هل تغارون من التوانسة والمصريين؟ ألم تروا ما حلّ بتلك البلاد؟'... (حذفنا من نصّ التهديد جميع الألفاظ البذيئة التي تفوّه بها الضابط، بحقّ المتضامنات الإناث تحديداً).
وهذا المستوى المبتذل من المقارنة، والذي يعتمد الترويع الرخيص، كان في الواقع يستكمل المستوى المبتذل الأوّل الذي دشّنته شركة الهواتف المحمولة 'سيرياتيل'، لصاحبها رامي مخلوف، ابن خال الرئاسة وكبير حيتان الأعمال والأشغال والتعهدات والإستثمارات، حين أرسلت إلى المشتركين رسالة على هواتفهم تقول: 'الشعوب تحرق نفسها لتغيير رئيسها، ونحن نحرق أنفسنا وأولادنا ليبقى قائدنا بشار الأسد. لا تراجع ولا استسلام معك يا قائد الوطن'!
هنا، إلى هذه وتلك، لائحة ببعض وقائع القمع التي جرت في الآونة الأخيرة، بعد حراك الشوارع العربية:
ـ القضاء العسكري يعقد جلسة جديدة لمحاكمة الكاتب علي العبد الله، الناشط البارز وعضو قيادة 'إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي'، لتجريمه بالتهمة العجيبة دون سواها: 'نشر أنباء كاذبة من شأنها وهن نفسية الأمّة'؛ فضلاً عن تهمة جديدة كان لا مفرّ من تلفيقها: 'تعكير صلات سورية بدولة أجنبية'، على خلفية مقال بعنوان 'ولاية الفقيه: دين أم سياسة؟' كان العبد الله قد كتبه وهو في السجن. ذلك لأنّ الرجل أنهى مدة الحكم السابق الصادر بحقّه، السجن لسنتين ونصف السنة بسبب انتمائه إلى 'إعلان دمشق'؛ لكنّ السلطات احتفظت به في سجن عدرا، بعد أن طالبت النيابة العامة العسكرية بتحريك دعوى جديدة ضدّه.
ـ اعتقال الشاب غسان ياسين، من حلب، على خلفية مشاركته في برنامج بثّته فضائية 'أوريينت'، حول ما سُمّي 'يوم الغضب السوري'؛ وذلك رغم أنّ مداخلته لم تتجاوز انتقاد الفساد، وكان حريصاً على القول إنه 'ضدّ مَنْ يحاول الإساءة لسورية الحبيبة'.
ـ اعتقال غسان النجار (73 سنة)، الناشط في 'التيار الإسلامي المستقل'، وعدم إطلاق سراحه إلا بعد تدهور صحته جرّاء الإضراب عن الطعام. سوف يتعيّن عليه، مع ذلك، المثول أمام القضاء بتهمة 'إضعاف الشعور القومي'.
ـ اعتقال الشاب محمد فراس سيروان، الطالب في جامعة دمشق، على خلفية مشاركته في مظاهرة شارع الحريقة، التي شهدتها العاصمة السورية يوم 17 شباط (فبراير) الماضي، وإطلاقه هتافات مناهضة للنظام. وللتذكير، كان وزير داخلية النظام، اللواء محمد سعيد سمور، قد هرع إلى موقع التظاهرة ونبّه الناس إلى أنّ ما يفعلونه 'عيب'، و'هذه اسمها مظاهرة'!
ـ اعتقال المواطنين الأكراد عمر عبدي إسماعيل، وعبد الصمد حسن محمود، وأحمد فتاح إسماعيل، بتهمة 'القيام بأعمال يُقصد منها أو ينتج عنها إثارة النعرات العنصرية أو الحض على النزاع بين الطوائف ومختلف عناصر الأمّة'. وأمّا حقيقة 'جنحة' الثلاثة، فهي تنظيم أمسية شعرية، باللغة الكردية، في أحد البيوت!
ـ ـ اعتقال المدوّن أحمد محمد حديفة (28 سنة)، صاحب 'ملتقيات أحمد أبو الخير'، والذي اعتاد التدوين وشارك في تأسيس 'مجتمع المدوّنات السورية'. وتقتضي الإشارة إلى أنّ مدوّنته تعمل منذ سنة 2005، وهي أوّل مدوّنة ناطقة دعماً للمكفوفين وضعاف البصر.
وأغلب الظنّ أنّ النصّ التالي، المنشور على المدوّنة بتاريخ 17 كانون الثاني (يناير) الماضي، كان في طليعة أسباب ذعر أجهزة النظام من الفتى: 'في بلد غير تونس، الثورة ممكنة بدرجة لا تقلّ لاعتبارات كثيرة؛ ربما أبرزها أنّ القهر والكبت والظلم والقمع والإستبداد الذي يعيشه أهل تونس يقلّ عن قهر وظلم واستبداد يعيشه إخوتهم في بعض البلاد العربية، وبالتالي فإنّ الدوافع والمحفزات أكبر وأشد، وعامل الصبر ومقاومة ردة فعل المستبد أصلب وأشرس'.
ـ أخيراً، دخلت الدكتورة تهامة محمود معروف، طبيبة الأسنان، في إضراب عن الطعام منذ تاريخ 18 شباط (فبراير) الماضي، احتجاجاً على ظروف اعتقالها السيئة، وللمطالبة بحقّها في النقل من سجن عدرا إلى سجن النساء. وكانت السيدة معروف قد اعتُقلت سنة 1992 بتهمة الإنتماء إلى 'حزب العمل الشيوعي'، وأُفرج عنها بعد سنة لتُحاكم طليقة، ثمّ لوحقت، بعد الحكم عليها بالسجن ستّ سنوات مع الأشغال الشاقة، فعاشت في الحياة السرّية إلى أن اعتُقلت مجدداً مطلع العام الماضي، لإكمال حكم السجن السابق، رغم تقادمه بموجب القانون السوري.
لائحة الوقائع السابقة، وهي قابلة للتفاقم ساعة بعد أخرى ويوماً بعد يوم، توحي بأنّ النظام يواصل أسباب بقائه اتكاء على خيارات الإستبداد ذاتها التي كفلت إحكام قبضته الأمنية، وأدامت سيرورات النهب والفساد وتصنيع شبكات الولاء العائلية، وعزل السياسة عن الاجتماع أو تفريغ المجتمع من هواجسه المدنية والحقوقية لصالح اللهاث خلف لقمة العيش، أو الترهيب ممّا يمكن أن يحلّ بسورية ـ على غرار العراق ولبنان، والآن تونس ومصر... ـ إذا سارت في طريق آخر غير صيغة 'الإستقرار' التي يقترحها النظام...
في عبارة أخرى، النظام السوري لا يزال يحيا في أطوار ما قبل انتفاضة تونس ومصر، مفترضاً أنّ السوريين ليسوا توانسة ولا مصريين؛ وأنّ ألعاب 'الممانعة' و'المقاومة' ليست كفيلة بتخدير حسّ الاحتجاج في الشارع الشعبي العريض، فحسب؛ بل تحويل ذلك الحسّ إلى نقيضه تماماً: الذعر من التغيير، والإتكال على الحاضر المعلوم (أياً كانت عذاباته ومظالمه) بدل المستقبل المجهول (كيفما لاحت مكاسبه ومتغيراته)، والتسليم بأنه ليس في الإمكان أفضل ممّا كان.
فإذا صحّ أنّ هذه هي الذهنية التي تحرّك سلوك النظام السوري اليوم، فإنّ الخطأ هنا جسيم ومريع وفاضح، من جهة أولى؛ لكنه، من جهة ثانية، ليس أقلّ من دفن للرأس في رمال الإستيهام والتكاذب وخداع الذات، وإغماض للعين عن اعتمالات تونس ومصر واليمن والبحرين والجزائر؛ وهو، من جهة ثالثة، التحاق بفلسفة معمّر القذافي، المتعامية أوّلاً، والإنتحارية ثانياً، والدامية لاحقاً؛ وانضواء في الصفّ النقيض لكلّ ما سطّرته حكمة التاريخ من دروس بليغة، حول جدل الحاكم والمحكوم، وحول مصير المستبدّ، بالطبع، من قبل ومن بعد!
- آخر تحديث :
التعليقات