مصطفى البرغوثي

يصعب أحياناً مع تزاحم الأحداث وتدافعها، الوصول للاستخلاصات العامة الأهم من مغزاها . ومع ذلك فإن الثورة العارمة التي انطلقت في العالم العربي، أولاً في تونس والجزائر ووصلت بعد ذلك إلى ذروة زخمها في مصر وتمتد الآن لدول أخرى مثل ليبيا واليمن، تقدم فرصة تاريخية نادرة لرؤية كيف تعيد الشعوب صناعة التاريخ كما تعيد بناء مصائرها ومستقبلها، وتوفر من جانب آخر فرصة علمية نادرة لرؤية ولادة الجديد من رحم القديم، ولدراسة لحظة التحول النوعي كنتاج للتراكم الكمي الطويل، والمعبرة عن القوانين الجدلية والحراك الاجتماعي بجلاء ووضوح .

ونقطة البداية هي أن ما جرى في تونس، وبعد ذلك في مصر، وما سيتلوه بالتأكيد في أماكن أخرى، أمر لا يستطيع صنعه أو اصطناعه حزب أو حركة أو قوة داخلية كانت أم خارجية، فهو نتاج لتطور وتراكم طويل المدى امتد لسنوات وعقود، وربما قرون في بعض المناطق، وحلت لحظة انفجاره فخرج الناس بالملايين في ثورة عارمة لم يشهد العالم العربي مثلها في كل تاريخه الحديث، ولربما لم يشهد مثلها في كل تاريخه .

ولا أجد لحظة مماثلة في حجم واتساع وشمولية هذا النهوض الشعبي إلا الانتفاضة الشعبية الأولى في فلسطين في سنتها الأولى 1978-،1988 التي للأسف أجهضت نتائجها الرائعة باتفاق أوسلو، الذي ضيع فرصة تاريخية لإنهاء الاحتلال ldquo;الإسرائيليrdquo; . مع العلم أن تلك اللحظة الفلسطينية لم توثق بما يكفي، أولاً بسبب الفروق في الحجوم والدور الاستراتيجي مقارنة بمصر، أو لأنه لم يتوفر لها ما يتوفر لمصر اليوم من تغطية إعلامية وتطور تقني غير مسبوق في أدوات التواصل .

إن ما يجري في مصر مثل كل ثورة كبرى كالثورة الفرنسية أو الروسية، وما جرى في تونس يعبر عما سماها باحثو علم الاجتماع ldquo;اللحظة الثوريةrdquo;، حين يرفض المحكومون أن يحكموا بالطريقة السابقة، ويعجز الحاكمون عن مواصلة الحكم بالطريقة السابقة .

إنها حدث جلل، يمكن أن تعد له الأحزاب والقوى والمفكرون والحركات والجهد العفوي للشعب، ولكن عندما تحل لحظته، فإنه يكون أكبر من أن يتوقعه أو يخطط له أو يصنعه أي طرف .

الثورات الكبرى لا تصنع، بل تنفجر كالبراكين مندفعة بزخم تناقضات اجتماعية وسياسية هائلة، كبتت لعقود وسنوات ومنعت من التعبير عن نفسها أو التنفيس عن غضبها ما يجعل لحظة الانفجار أكبر وأعظم من أن يمكن السيطرة عليها .

ولذلك تخطيء القوى السياسية إن نظرت لنفسها في هذه الحالة بمقياس أكبر من حجمها أو دورها، أو قدرتها . إنها مثل القابلة التي يمكن أن تساعد في تحقيق ولادة آمنة، ولكنها ليست من صنع الجنين أو الولادة وليست الأم (الشعب) التي تضع الوليد أو البديل لها .

وليس عليها ان تلوم نفسها على ما مضى، بقدر ما يجب أن تنتبه لدورها اليوم، وهو ضمان نتائج الولادة ووصولها إلى مبتغاها بولادة الجديد وسلامة حياته وحمايته من محاولات الإجهاض والخنق والقتل والاحتواء التي يقوم بها النظام القديم .

فالثورة ldquo;الانفجارrdquo; مثل الولادة تضمن قدوم الجديد ولكنها لا تضمن سلامته وبقاءه، التي تغدو من ضمن مهمات الطليعة الفكرية الواعية والمنظمة .

إن ما يجري اليوم أمام أعيننا لا يقتصر على مصر، بل هو ظاهرة تنبع من الواقع العربي ككل، وإن كانت تونس أول الدول التي تأثرت به، فذلك يعود إلى أن تونس كانت الحلقة الأضعف في سلسلة من النظام المتواصل، وهو من دون شك يعبر عن تناقضات عميقة آن أوان حلها، بعضها قديم، وبعضها جديد، ولربما كان تراكمها وتفاعلها هو الذي يخلق هذا الزخم الهائل وغير المسبوق .

نظام الحوكمة

* أولاً، هناك التخلف في نظام الحوكمة والعلاقة بين الحاكم والمحكوم، الذي ما زال متناقضاً مع ما شهده وما يشهده العالم من تحولات ديمقراطية، بصورة يبدو معها أنه خارج التاريخ البشري ومتخلفاً عنه . فالعالم والناس لم يعودوا قادرين على استيعاب نظام الحكم السلطوي الاستبدادي الذي تمثل الشمولية محتواه الأساسي، وتمثل الأجهزة الأمنية أداة السيطرة الرئيسية فيه، ويمثل القمع والكبت والإهانة للكرامة البشرية التعبير عنه، ويمثل نظام المجموعة الواحدة أو الحزب الواحد- إن وجد- نمط الحكم فيه .

أنظمة كثيرة وأقوى وأكبر مما هو موجود في منطقتنا تمتعت بسيطرة على مقدرات ضخمة لم تستطع الصمود في وجه التغيير . ولعل أبرز أمثلتها الاتحاد السوفييتي، الذي لم تغفر نجاحاته بحماية بلده والعالم من النازية وإلحاقه الهزيمة بها، كما لم تغفر له نجاحاته الاقتصادية في نقل روسيا من النظام الإقطاعي إلى نظام عصري، فانهار بصورة مدوية وسريعة لأن الشعوب لم تعد تستطيع احتمال الحكم الشمولي، الذي يسيطر فيه الحاكمون على كل شيء وعلى كل المقدرات، على جهاز الحكم والجيش والأمن والإعلام والاقتصاد والسياسة والتعليم والصحة والثقافة والجمعيات والمؤسسات، ويضيقوا فضاء المجتمع المدني إلى حد الحشرجة والاختناق .

والمثل الآخر البارز في هذا المجال الأنظمة الديكتاتورية في أمريكا اللاتينية، التي دعمتها الولايات المتحدة ومولت أنظمتها ورعتها، وحاربت ثورات شعوبها مثل ثورة نيكاراغوا لتحتفظ بالسيطرة الاستراتيجية عليها، وعندما حانت لحظة الحسم، وزال عن المنظومة الداعمة لها ستار الحرب الباردة، انهارت تلك الأنظمة الواحدة تلو الأخرى ودخلت دول أمريكا اللاتينية رحاب التعددية والديمقراطية، وبدأت تشق طريق التنمية الحقيقية ومحاربة الفقر فقفزت قفزات سريعة للأمام كالبرازيل التي فاز في انتخاباتها المتتالية ممثلو الحركات السياسية - الاجتماعية الذين يطالبون ليس فقط بالديمقراطية السياسية بل وبالديمقراطية الاجتماعية .

ولا غنى هنا عن القول إن الديمقراطية السياسية ليست نظاماً مثالياً، وما زالت بحاجة لتطوير، وأهم تناقضاتها في بعض البلدان كالولايات المتحدة، صعوبة التصدي لقوة تحالف المال مع وسائل الإعلام ما يخلق تحدياً ما زال بحاجة إلى مواجهة يتمثل في احتكار أحزاب معينة، أو حزبين بالأحرى، للمجال السياسي بالكامل .

لقد تطورت الديمقراطية عبر العصور ومن خلال شعوب وحضارات مختلفة بدأ بالحضارة الإغريقية القديمة، وما زالت عملية تطور وانتقال وتطور، وأبرز ملامح هذا التطور اعتبار هذه الديمقراطية ناقصة إن اقتصرت على الجانب السياسي (الديمقراطية السياسية) ولم تشمل الجانب الاجتماعي (الديمقراطية الاجتماعية)، وهي ليست احتكاراً لأحد، وليست ملكاً للدول الغربية كما يدعي البعض، بل إن بعض أفضل ارهاصاتها حدث في البلدان النامية- مثلاً انتخاب أول امرأة في العصر الحديث في منصب الرئيس في سيريلانكا (سيلان) سابقاً، قبل أن يحدث ذلك في دول غربية عريقة كبريطانيا بعقود .

لكن الديمقراطية بكل نواقصها تعد منظومة أفضل بما لا يقاس من النظام الشمولي الرهيب، وقد تبلورت مكونات لها ذات صفة عالمية، أي ضرورة وقابلية تطبيقها في كل مكان، مثل الانتخابات الدورية الحرة والنزيهة، ووجود نظام متوازن للمساءلة والمراقبة، وفصل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، وخضوع الجيش والأجهزة الأمنية للسلطة السياسية والبرلمان المنتخببن، وحرية التعبير والنشر وحرية تشكيل الأحزاب والجمعيات والتعددية السياسية وحرية الصحافة، واتساع فضاء المجتمع المدني، وسيادة القانون على الجميع . . . .الخ .

ومن هذه الزاوية فإن المهمة الرئيسية أمام الشعب المصري الآن، هو إزالة كل ما يعيق الديمقراطية وممارساتها بدءاً من قانون الطوارئ ومواد الدستور والبرلمان المزور، والنظام القانوني السائد، وتحقيق ممارسة الشعب لحقه الحر في الانتخاب والاختيار لكل هيئاته من الرئيس حتى أصغر مجلس قروي، وخضوع المنتخبين لمنظومة مساءلة ومحاسبة معروفة ومحددة، تتيح حق منافسة المنتخبين في كل انتخابات قادمة بحرية ودون قيود وفي مواعيد انتخابية لا يجوز تأجيلها . أي تأمين آلية التبادل السلمي للسلطة حسب إرادة الشعب .

التناقض بين التقليدية والتحديث

* ثانياً: أما العامل الثاني الذي غذى ثورة مصر، فقد كان التناقض المتفاقم بين أشكال السيطرة التقليدية للحكم الشمولي، وبين تأثيرات العصر الجارفة . ولا يتسع المجال هنا لمناقشة مسألة العولمة بمساوئها ومحاسنها، ولا محاولات الرأسمالية الاحتكارية استخدامها كوسيلة للسيطرة العالمية . فالعولمة مثل الثورة الصناعية والآلة البخارية حالة معطاة، ودرجة تطور، تتوقف نتائجها على كيفية استخدامها، إذ يمكن أن تستخدم للخير أو للشر .

لكنها ترافقت باعتبارها قفزة بشرية للأمام مع ثلاث ثورات كبري، ثورة المعلومات التي لا سبيل لوقفها أو السيطرة عليها، بما يشمل منظومات الاتصال الإلكتروني والإعلام الاجتماعي كالإنترنت وrdquo;الفيسبوكrdquo; والمواقع ldquo;blogsrdquo; وrdquo;تويترrdquo;، وثورة الاتصالات، بالهواتف النقالة التي يباع منها سنوياً ما يتجاوز المليار جهاز في العالم وما شابهها وكذلك ثورة الإعلام التي تمثل المحطات الفضائية جبهتها وقفزتها الجديدة في عصرنا، كما كانت الإذاعات قفزة الأربعينات والخمسينات والصحف قفزة أواخر القرن التاسع عشر .

ولم تستطع وسائل السيطرة التقليدية ولن تستطيع وقف تأثير هذه الوسائل في الشعوب والتي تكتسب من خلالها المعرفة التي تحاول الحكومات حجبها عنها، وهي تتيح للشعوب وقواها في الوقت نفسه وسائل تنظيم واتصال وتواصل غير مسبوقة، بما ينهي احتكار الحكومات الاستبدادية لوسائل الاتصال والإعلام، ويخلق ما يمكن أن نسميه الديمقراطية الإعلامية قبل نشوء الديمقراطية السياسية، وهو أيضاً يتيح للقوى السياسية استخدام هذه الوسائل لنشر دعوات التنظيم والتغيير .

ولا يقتصر تأثير هذا التطور الهائل في هز أركان البنى التقليدية في المجتمعات الشمولية بل يتجاوز ذلك للبلدان الغربية (المتطورة!!)، فاحتكار الحكومات للمعلومات والدبلوماسية السرية تهتز أركانها اليوم في كل العالم، وأبرز الأمثلة على ذلك الانكشاف الكامل للوثائق الدبلوماسية على يد ldquo;ويكيليكسrdquo;، التي يمثل انكشافها مجرد بداية لما هو قادم . ولم يعد ممكناً في عصرنا إخفاء الحقائق عن الشعوب لفترة طويلة كما جرى في السابق مع اتفاقيات سايكس- بيكو الاستعمارية .

ومن ناحية أخرى فإن الضغط المتعاظم لثورات العصر الإعلامية والعلمية والتقنية، يدفع بقوة نحو التحديث والعصرنة . وستتأثر بذلك منظومات عديدة في منطقتنا، وحتى خلافات محتدمة كتلك في الساحة الفلسطينية تنكشف بحكم هذا الضغط باعتبار أن طرفي الصراع هما وجهان لنفس البنية التقليدية، التي تقاوم التحديث والعصرنة، وتتبنى فكرة سيطرة وحكم الحزب الواحد، بدل القبول بالتعددية السياسية المتكافئة .

لكل ذلك، ولأسباب أخرى ليست جديدة ولا غريبة، يظهر الشباب العربي باعتباره الأكثر قدرة على استخدام وتفعيل الوسائل العصرية، ويتقلد دور الطليعة باعتباره الأقل تضرراً من تغيير النظام التقليدي القديم والأكثر استعداداً لتقبل التطور العصري . ولا يعني ذلك، كما قد يظن البعض، أن الشباب مستعد للتخلي عن تراثه، وتاريخه، بل على العكس إنه الأكثر استعداداً لحماية بقاء هذا التراث وتعزيز هذا التاريخ في عصرنا الحديث تماماً كما المسلمون والعرب عندما نهضوا بالعلم والمعرفة وبنوا أفضل الجامعات ومراكز البحث العلمي بينما كانت أوروبا تغط في سبات القديم . لقد عانى الشباب العربي، ومعه الشباب الفلسطيني التهميش والإهمال وانعدام الفرص، والبطالة ومآسي المحسوبية والواسطة والتمييز . هذا في الوقت الذي يشكل فيه من هم دون الثلاثين عاماً الغالبية الساحقة، وقد سبق أن شخصت تقارير التنمية البشرية الصادرة عن الأمم المتحدة تلك المشكلات وتنبأت بآثارها، فكانت النتيجة وقف إصدار هذه التقارير، بدل أخذ العبر من المخاطر التي كشفتها . وبالمناسبة فإن تلك التقارير كشفت كذلك عن الخلل البنيوي الكامن في تهميش دور ومكانة المرأة، لكل ذلك فإن الشباب والشابات يمثلون اليوم طاقة ثورية هائلة للتغيير والتطوير، ولا بد أن يأخذوا ليس فقط دوراً مشاركاً بل أيضاً أدواراً قيادية فاعلة في مختلف الحقول .

* ثالثاً: الاحتكار الاقتصادي والفساد والفقر:

لقد ترافقت ثورات التحرر الوطني العربية التي قادت إلى تحقيق الاستقلال، بنشوء أنظمة ثورية، طغى عليها الطابع العسكري، باعتبار أن الجيش كان المسيطر على القوة الأفضل تنظيماً . وفي حين حققت بعض هذه الأنظمة قفزات تنموية كبيرة، مثل القضاء على الإقطاع في مصر على يد عبد الناصر، وتصنيع البلاد وتطوير الزراعة، وتبني جزء من هذه الأنظمة التوجه الاشتراكي . غير أنه مع حلول نهاية الستينات وبداية السبعينات نشطت ثلاثة عوامل مهمة . أولها القفزة النفطية بما حملته من قدرات مالية هائلة لمنظومات تقليدية أخذت تمارس تأثيراً في المحيط بأسره، وثانيها الهجمات التي شنتها ldquo;إسرائيلrdquo; على عدد من البلدان كسوريا ومصر، لتحجيم دورها وتأثيرها التحرري الذي كان يقلق الكثيرين في المحيط وإفريقيا والدول النامية عموماً، وآخرها كان انعدام الديمقراطية السياسية في هذه البلدان ما حرم قيادتها من أهم قوة دعم لها، وهو الشعب نفسه الذي كانت تحكم باسمه . وترافق ذلك مع ظاهرة اقتصادية مهمة، مضمونها أن الرأسمالية التي ضربت والإقطاع الذي صفي، ترك فراغاً، اندفعت لملئه أجزاء من الطبقة الوسطى التي استأثرت بالسيطرة على جهاز الدولة البيروقراطي، واستخدمته لإنشاء ما يمكن تسميته البرجوازية الطفيلية التي التحمت لاحقاً بالبرجوازية الكبرادورية وكيله- الشركات الأجنبية . ولذلك لم يطل الوقت ببلد كمصر بعد وفاة عبد الناصر ليتحول تحولاً كاملاً في اتجاه آخر شقه السادات لسيطرة هذه الفئات الطفيلية، ولعقد اتفاق كامب ديفيد والبدء بترسيخ منظومة سيطرة قمعية ضد الشعب الذي قامت الثورة الأولى من أجله .

ولا شك أن هناك فروقاً وتفاوتاً بين دولة وأخرى، لكن هيمنة البرجوازية الطفيلية على جهاز الدولة الحاكم جعلها تهيمن على مختلف موارد اقتصاد القطاع العام والخاص، بالسرقة والنهب والفساد والقمع والرشوة والعمولات لتحقق ثروات خيالية دون أن تقدم إنتاجاً يتيح نمواً متوازناً في المجتمع فتعمقت الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وتمركزت الثروة، وعندما جفت الينابيع أصبح بيع ممتلكات الدولة ومصانعها مصدراً جديداً للإثراء الفاسد، حتى بلغ السيل الزبى ولم يعد المقموعون المظلومون قادرون على احتمال العذاب الذي يعيشونه يومياً فثاروا .

لم تكن قصة محمد بوعزيزي سوى نموذج لفقر ومعاناة امتزج بإهانة الكرامة الإنسانية على يد أجهزة الأمن في تونس، وكذلك كانت قصص تعذيب واضطهاد آلاف الفتيان والفتيات من المحرومين في مصر، وآلاف الشبان الذين كانوا يصلون خريف عمرهم دون أن يستطيعوا توفير متطلبات الزواج نموذجاً آخر .

وكان مثلث الاحتكار الاقتصادي الطفيلي بفساده، والفقر المتعاظم، والقمع الوحشي، محركاً لأعظم هبة ثورية غير مسبوقة . وعندما يتمعن الإنسان في الأمر فإن ما يخطر في البال، ليس الدهشة لنشوب هذه الثورات، بل الاستغراب لكونها تأخرت كل هذا الوقت .

ثورة الكرامة ضد الإذلال الشخصي والوطني

لم تكن صدفة أن يتكرر تعبير ثورة الكرامة في وصف ما جرى في تونس ومصر . فالمواطن العربي، كان يهان في كرامته يومياً، ويتعرض للإذلال على أيدي منظومات القمع سواء في بلده، أو في ما يزوره من البلدان المجاورة . ولعل المس بهذه الكرامة عبر حرمان الإنسان من مواطنته، قد أثار حتى أبناء الطبقة الوسطى، التي وإن لم تعان من الفقر الشديد فإنها عانت من الحرمان من الفرص المتكافئة، وأهينت بحرمانها من حق الاختيار، بتزوير الانتخابات، وأهينت أكثر بجعلها تشعر أنها مهمشة في وطنها بحكم سيطرة المنظومة الشمولية وما يلتصق بها من انتهازيين على كل الفرص والمراكز .

إن ذلك الحرمان من حق المواطنة الكريمة، والذي بلغ أوجه بتزوير انتخابات مجلس الشعب الأخير في مصر، قد كان محركاً أساسياً للملايين من أبناء الطبقة الوسطى الذين يعرفون وخاصة الشباب منهم بحكم اطلاعهم عبر وسائل الاتصال العصرية، ما هم محرومون منه .

الثورة وفلسطين

لكن هناك عاملاً آخر لا يجوز إهماله وله علاقة مباشرة بفلسطين على وجه الخصوص .

لقد كانت هزيمة العرب في حرب فلسطين عام ،1948 وقصة الأسلحة الفاسدة التي كشفت فساد النظام الملكي من أهم عوامل قيام ثورة يوليو ،1952 التي كانت أيضاً ثورة ضد المهانة التي لحقت بالجيش المصري .

أما أعوام الثمانينات والتسعينات والعقد الأول من الألفية الثالثة، فقد شهد إهانات لوطنية كل العرب على يد ldquo;إسرائيلrdquo; بشكل خاص . لقد رأت الشعوب العربية وشعب مصر- الذي اعتاد لعب دور الطليعة الوطنية في عهود كثيرة من صلاح الدين إلى عبد الناصر، شهدت فجور ldquo;إسرائيلrdquo; وشراسة اعتداءاتها على الشعب الفلسطيني واللبناني في غزو لبنان وحصار المقاومة عام 1982 ثم في القمع الذي مورس ضد انتفاضة الشعب الفلسطيني وفي الحروب المتعاقبة على لبنان، والاجتياح المدمر للأراضي الفلسطينية عام 2002 وحصار القيادة الفلسطينية، ثم المجازر على لبنان عام 2006 .

ثم وصل السيل الزبى بالحرب الهمجية وجرائمها ضد قطاع غزة الصغير المحاصر والمستضعف والمحاذي لحدود مصر، ورأي شعب مصر الجريمة بكامل حجمها ووقعها هذه المرة، وسمع الاتهامات بأن مصر ساكتة على الحصار .

وكل ذلك كان يصيب المواطن العربي والمصري بالمهانة، خصوصاً وهو يرى أن بلده مجبر على الالتزام بمعاهدات غير متكافئة مع ldquo;إسرائيلrdquo; تقيد قدرتها على التضامن والفعل .

ولم تكن الحرب على العراق واحتلاله وتدميره إلا عاملاً آخر أسهم في تغذية الشعور بالحنق والرغبة بالثأر لإهانة الكرامة الوطنية .

وهذه كلها عوامل لا يمكن إهمال تأثيرها عند محاولة فهم قوة الاندفاع الهائلة لانفجار الثورة المصرية .

لعل الكثيرين يحاولون استشراف تأثير الثورات الجارية، في القضية الفلسطينية، ومستقبل النضال الفلسطيني .

ودون استباق الأحداث، أو الاستسلام للرغبة في الأمنيات، لا بد من القول إن تأثيراً إيجابياً قد حدث بالفعل، وهذه بعض ملامحه:

أولاً: لن يبقى العالم العربي بعد اليوم مجرد ساحة لصراعات قوى إقليمية ودولية مفعولاً به بل سيصبح عنصراً فاعلاً في هذه الصراعات وهذا بحد ذاته إيجابي .

ثانياً: إن انتصار الثورة المصرية سيعزز مكانة ودور مصر في أن ترسخ نظامها الديمقراطي، وهذا لا يمكن إلا أن يسهم بشكل إيجابي في تعديل ميزان القوى لمصلحة النضال الفلسطيني، فمصر ديمقراطية لا يمكن أن تكون وسيطاً، بل سنداً للشعب الفلسطيني .

ثالثاً: إن انتصار الديمقراطية في مصر وتونس ودول أخرى سيفتح باب التضامن الشعبي على مصراعيه مع الشعب الفلسطيني، وسيتيح للشعوب التي كانت تواقة للتضامن مع فلسطين أن تعبر بأسطع الصور عن هذا التضامن . وستكون الجبهة العربية هي الميدان المؤثر لحملة المقاطعة وفرض العقوبات على ldquo;إسرائيلrdquo; باعتبارها أحد عناصر الاستراتيجية الوطنية الفلسطينية لتغيير ميزان القوى .

رابعاً: نحن نشهد من الآن، تأثير انتصار الشعبين المصري والتونسي الذي أظهر قوة الشعب والإرادة الشعبية على الشباب الفلسطيني وخروج الكثيرين فيه من غياهب الإحباط واليأس والتهميش، والرغبة في المشاركة والفعل . ولذلك تأثيران: فوري وبعيد المدى . فعلى الصعيد الفوري نشهد الآن نهوضاً شعبياً فلسطينياً للتضامن مع مصر، ولحملة واسعة لإنهاء الانقسام تحت شعار ldquo;الشعب يريد إنهاء الانقسامrdquo; . كما نشهد نهوضاً داخلياً للمطالبة بالحريات والديمقراطية وضد تكوّن منظومة قمعية .

أما على المدى المتوسط والبعيد، فإننا نتوقع انضواء شبابنا وشعبنا واسعاً في حركة المقاومة الشعبية ضد الاحتلال والجدار ونظام التمييز العنصري .

وإذا كان الشعب الفلسطيني قد أبدع من خلال انتفاضته الأولى أول إرهاصات الثورة الشعبية العربية المعاصرة، فإن ثورتي مصر وتونس تعيدان تذكيره بقوته وعظمة طاقته وبالقدرة الفعلية للمقاومة الشعبية السلمية وحجم تأثيرها .

خامساً: لا شك أن أحد الآمال التي يتطلع إليها الفلسطينيون أن تكون أولى خطوات مصر الجديدة، رفع الحصار بالكامل عن قطاع غزة وأهله المحاصرين في ما سيبطل تأثير الحصار ldquo;الإسرائيليrdquo; الإجرامي ضد مليون ونصف فلسطيني يعيشون في ما يمكن وصفه بأكبر سجن في التاريخ الحديث .

وبكل المعايير، ومهما جرى، فإن الذي يجب أن يقلق اليوم هي ldquo;إسرائيلrdquo;، المتغطرسة والوقحة والعنصرية، التي استغلت ضعف وهزال الأنظمة المحيطة لتنشر أشرعة أحلامها بهيمنة شاملة على المنطقة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً واستراتيجياً، فجاء صوت الشعب المصري الذي سيذكرها بما قاله الشاعر الفلسطيني الخالد محمود درويش ldquo;إن بيض الأفعى لا يلد النسورrdquo; . وإن هناك حدوداً للقوة لا يمكن تجاوزها إن تعارضت مع حجوم التاريخ والحضارة والقوة البشرية . وإن هيمنة الظالم في عصر ضعف الإرادة، تنحسر بنهوض تلك الإرادة .

عصر جديد

إننا نعيش عصراً جديداً بكل معنى الكلمة . ولعل بعضنا صار محظوظاً بأنه قد عاش ثورة الستينات والسبعينات العالمية، ثم يشهد اليوم مع الشباب الثورة الجديدة بعد عصر من الانحطاط والتخلف والجمود، ساد فيه انهيار القيم والإحباط واليأس، ورأينا فيه الكثيرين من قدماء الثورية والتجديد يتحولون إلى هياكل محنطة عديمة القيمة، ورأينا فيه مفكرين يتحولون إلى مثقفي بلاط، ورأينا فيه الذمم تباع وتشترى .

اليوم ينهض في عالمنا العربي عصر جديد واعد ومبشر، وهو مثل طفل صغير يخطو خطواته الأولى، قد يترنح أحياناً، ولكنه سينمو ويكبر .

ولذلك فما من مهمة أهم اليوم من الحرص على هذا الوليد والأخذ بيده ليستكمل إنشاء نظام ديمقراطي كامل وقوي مرجعه إرادة الشعب . وما من شيء أهم من حماية هذا الوليد من محاولات احتواء ldquo;إسرائيليةrdquo; وإمبريالية كل همها الحفاظ على استقرار مصالح ldquo;إسرائيلrdquo; وهيمنتها .

وما من شيء أهم من إبقاء الأبواب مفتوحة لرياح التغيير كي تهب وتنتشر وتتسع كاسرة الحواجز .

ولعل ما نشهده في العالم العربي بداية لتحولات عالمية لا بد أن تأتي لأن في عصر الهيمنة القائمة والعولمة المسيطرة تناقضات لا حل لها سوى تحولات ثورية عالمية على نطاق عالمي .

وفي هذا العالم المضطرب، نقف نحن الفلسطينيين على الضفة الصحيحة . ضفة النضال من أجل الحرية والكرامة الإنسانية . وحلفاؤنا هم قوى التقدم والتغيير عربياً ودولياً . أما أولئك الذي راهونا على ضفة الخصوم، فلن يحصدوا إلا خيبة الأمل .