ناصر الحجيلان

يقول معمر القذّافي، في آخر مقابلة معه: إنه يسيطر على البلاد، وأكد بأن quot;كلquot; الليبيين يحبّونه وأنهم مستعدون للموت دفاعًا عنه. وبالمثل صرّح ابنه سيف الإسلام بأن quot;أغلبيةquot; الشعب الليبي مع النظام القائم. في حين تثبت التقارير الدولية أن سلطاته بدأت تتضعضع وتنحدر نحو الانهيار التام بعد أن فقد أغلب أجزاء البلاد بيد الثوار.

وسبق أن قال النظام الليبي بأن الثوار هم قلّة قليلة جدًا يوصفون بأنهم quot;شرذمةquot;، وهو الوصف الذي سبق وأن سمعناه في مصر وقبلها تونس، ونسمعه اليوم في اليمن. وربما نتذكر في أثناء حرب العراق الأخيرة التصريحات الناريّة التي كان يطلقها وزير الإعلام العراقي السابق محمد سعيد الصحّاف، ومن ضمن تصريحاته إنكار الواقع نهائيًا وكأنه لايوجد أي احتلال أمريكي، وإعطاء معلومات خياليّة من خلال عبارات عامّة شبيهة بالقول: laquo;تمكّنا من دكّ حصون العدوraquo;، وlaquo;تمّ تدميرهم عن بكرة أبيهمraquo;، وlaquo;استطعنا القضاء الكلّي على فلولهم الضائعةraquo;، وlaquo;رمينا عظام جنود العدو للكلاب السودraquo;، وlaquo;قمنا بدفن حطام الطائرات والدبابات المدمّرة تحت الأنقاضraquo;..إلخ من العبارات التي تثير في المتلقّي قدرًا من السخرية.

وقد لقيت تصريحات الصحّاف - في وقتها- تهكم الناس بسبب ماتحويه من مبالغات متناقضة تصل إلى حد أنه لايمكن تصديقها، ومع هذا يتفوّه بها quot;رجلquot; بمرتبة وزير ويقدّمها بثقة وقوّة. ونحن اليوم مع موعد مشابه لتلك التصريحات نسمعه من القذافي الذي يسخر من القول بأن الشعب يرفضه، ويزعم أن الثائرين ليسوا سوى quot;حفنةquot; من المراهقين المخدّرين.

وبالنظر إلى موقع الصحّاف الوظيفي، نجد أنه كان إعلاميًا يريد القيام بحرب كلامية تؤثر في معنويّات الناس. وكان يتوقّع أن مثل تلك التصريحات ستُعطي معلومات مُضللة من شأنها خذلان العدو، وفي الوقت نفسه تُعطي دعمًا معنويًا للمواطنين، على اعتبار أن laquo;الحرب خدعةraquo;.. ولكنه بالغ في الوصف إلى درجة جعلت كلامه بلا مصداقية، ليس لأن الواقع يخالف ذلك فحسب، وإنما لأن الكلام نفسه يتضمّن ما يناقضه من داخله.

يتضح ذلك إذا تأملنا أشهر تصريحاته مثل قوله: laquo;لايوجد ولا أمريكي واحد في العراقraquo; في الوقت الذي يقول فيه: laquo;جاءوا إلى بغداد بدباباتهم كي يحترقوا فيهاraquo;. وحينما بدأ قصف بغداد قال: laquo;لاتصدقوا الأمريكان، بغداد آمنةraquo; ثم يضيف laquo;سنشوي بطونهم في الجحيم بأيدي العراقيينraquo;. وبعد فترة راح يقول: laquo;وضعنا ممتاز للغاية، سيتقدمون إلى بغداد وسندفنهم فيهاraquo;. وبعد أن دخلوا بغداد قال: laquo;سوف نستدرج هؤلاء العلوج ثم ننقضّ عليهمraquo;، وأضاف: laquo;سوف نقتل جميع العلوج.. ولكي أكون دقيقًا فإننا سنقتل غالبيتهم العظمىraquo;؛ وقال: laquo;المارينز مثل الحية.. سنقطعها وصلة وصلةraquo;؛ ومن أواخر تصريحاته قوله: laquo;لقد جعلنا قوّاتهم تتجرع السم ليلة أمس ولقناهم درسًا لن ينسوهraquo;.

وبسبب ماتحويه تلك الجمل من أوصاف قويّة ولكنها بعيدة عن الواقع، فقد لقيت اهتمام الناس. وهناك من جمع هذه التصريحات في ألبوم كان يباع وقتها في لندن، وتكاد تمتلئ مواقع الإنترنت بنماذج من تصريحاته الساخرة. وليس خافيًا على الناس مقدار المبالغة في تلك التصريحات، ولكنهم يبحثون عنها ويتابعونها لكي يحظوا بجرعة من الضحك. وقد تكون هذه الجرعة ذات مقدار أكبر حينما استمعنا لخطاب القذافي الأول الذي وصف فيه شعبه بالجرذان والفئران والقطط والميكروبات..إلخ. وقد ذكر لي أحد الزملاء أنه - عند سماع ذلك الخطاب - قد نال ضحكًا يكفيه لمدة عام.

والواقع أن تصريحات القذافي تكشف بوضوح عن سمات شخصية تبدو غير مألوفة، وليس المجال هنا للوقوف عليها. ولكن المعلومات التي تتضمّنها تصريحاته مبنية ما في ذهنه من وهمٍ مدعوم بالصور المنتقاة التي تجلب له عن موالاة الشعب أو الكلام الذي ينقل إليه من المقربين بأن الأمور تحت السيطرة.

ومن هنا، يمكن التفريق بين الصحاف والقذافي، بأنّ الصحّاف يعرف المعلومة الصحيحة ولكنه يُخفيها متعمّدًا ويذكر خلافها لهدف إعلامي تأثيري. ولهذا السبب، لم يغضب منه الناس أو ينقموا منه؛ بل تسابقت بعض القنوات لاستقطابه لكي يبعث المرح على المشاهدين. ولكنه لم ينجح، لأنه وُضع في برامج تحليلية تتطلب الدقة والموضوعية، ولا تنفع فيها المبالغة والتهويل، ولهذا فقد اختفى بعد فترة قصيرة، وكأنّ شخصيته مصاغة لكي تناسب موقعه السابق فقط. أما القذافي، فيشك كثيرون أنه يعرف الواقع الذي يدور في بلاده، ويتذرّع بالمؤامرات الأجنبية. ومع أن هذا المنهج هو ما سلكه كل من رئيسيْ تونس ومصر، ويكرره الآن رئيس اليمن الذي حدد مكان المؤامرة وهدفها؛ إلا أن القذافي ربما يكون أكثرهم إيمانًا بصدق أفكاره، ويكفي أن نستمع إلى أحاديثه ونظرياته لكي نعرف أنه بالفعل يعيش خارج الواقع.

إن البعد عن الواقع الذي يُقدّم للمتلقي العربي من الرموز السياسية، يقابله واقعية عند الغرب في حديثهم وتصريحاتهم. وإذا كنّا نعرف مقدار صراحتهم في مسائل الطب والتعليم والاقتصاد والتعاملات، فإن الأمر نفسه يمارس في الحروب، فقد صرّح وزير الدفاع الأمريكي quot;روبرت غيتسquot; بوجود مصاعب كبيرة في حال إجراء حظر جوي على ليبيا. ولو كان صاحب هذا التصريح هو الصحّاف، فمن المتوقع أن يقول: سيتم تطويق ليبيا عن بكرة أبيها بسربٍ من المقاتلات تحجب الشمس عن المنطقة بأكملها خلال ثوان. أما القذّافي فربما ينصب خيمة كبيرة تغطّي البلاد quot;كلهاquot;.

وما بين الوهم والواقعية، يفكّر الإنسان العربي، ويبني أحكامه، ويمارس سلوكه، ويقرّر القيم الأخلاقية. ولهذا، فإننا نعيش حياتنا من خلال تلك المنظومة الأخلاقية في عالم لانعرف فيه الواقع من الوهم.