حسن حنفي

إذا كان الإبداع الثوري هو الثورة إيجاباً فإن التحديات الثورية هي الثورة سلباً. وتعني مخاطر أو عقبات أو موانع أو محاذير الثورة. إذا كان الإبداع الثوري هو مصدر الثقة بالنفس والفرح فإن تحديات الثورة هي مصدر الحزن والتخوف. وإذا كان الإبداع الثوري قفزة إلى الأمام فإن تحديات الثورة خطوة إلى الوراء لإعادة النظر في سرعة القفزة والعوائق التي قد تقف أمامها، تهدئ من سرعتها أو توقفها وربما تحيلها إلى قفزة مضادة إلى الوراء. فقد نشأت من خلال كل الثورات ثورات مضادة. فالثورة حركة ومسار. تحتوي على تناقضها الداخلي، الشد والجذب، الفعل ورد الفعل.

وهناك عدة تحديات للثورة أهمها:

1- التناقض بين الثورة والجيش. وتحول الجيش من حامي الثورة إلى نقيضها. صحيح أن الجيش من الشعب ولكن قد يكون ولاؤه ما زال للنظام السابق. فالرئيس السابق رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وولاء الضباط بعضهم لبعض جزء من سلوك الجيش، الرئيس السابق، والنائب السابق لرئيس الجمهورية، ووزير الدفاع، ورئيس الوزراء السابق، خاصة لو كانوا أبناء دفعة واحدة أو تربطهم صداقات خاصة. فهم رفقة سلاح، في الحرب والسلم، باللباس العسكري واللباس المدني. هم زملاء وأصدقاء. يتزاورون ويمارسون الرياضة. ومن ثم تفقد الثورة ميزة لها وهي الثورة السلمية، بأقل قدر ممكن من الخسائر مقارنة بتاريخ الثورات.

2- الالتفاف حول الثورة من الجيش وامتصاص غضبها بمسكنات وقتية وتحقيق جزئي لبعض المطالب الثورية مثل إيقاف العمل بالدستور، وتعديله جزئيّاً في بعض بنوده، وحل مجلسي الشعب والشورى، والقبض على بعض رؤوس الفساد، والإفراج عن بعض المعتقلين، وتغيير بعض الوزراء. والمسار ما زال طويلاً، حل الحزب الحاكم، وإلغاء قانون الطوارئ، والإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين، وتكوين حكومة ائتلافية ليس فيها أحد من الحكومة السابقة، ووضع لجنة لكتابة دستور جديد، ثم تكوين مجلس رئاسي حتى يتم انتخاب الرئيس القادم، ومحاكمة شاملة لرؤوس الفساد بما في ذلك الرئيس السابق وعائلته، وأخيراً تغيير القائمين على المؤسسات الصحفية. وحجة الجيش: رويداً رويداً، الإصلاح البطيء خير من الثورة الهوجاء، وماذا يضير الصبر ستة أشهر بعد الصبر أكثر من ثلاثين عاماً؟ الشباب متهور وليست له تجارب سياسية سابقة، ولا يعرف كيفية تسيير أمور البلاد. في حين أن الضباط أكبر سناً وأكثر خبرة في إدارة الشؤون العامة.

3- شهوة الحكم عند العسكر معروفة في تاريخ الثورات منذ نابليون. وهو ما تثبته أيضاً ثورة يوليو 1952 عندما اختلف الضباط الأحرار بعد طرد الملك، والتحول من الملكية إلى الجمهورية، وحل الأحزاب، وتحقيق أهم مطالب الثورة، هل يبقى الجيش في الحكم أم يعود إلى الثكنات ويسلم الحكم إلى المدنيين؟ وانتصر فريق بقاء الجيش في الحكم حتى تتحقق مبادئ الثورة الستة. وبقي الجيش في السلطة على مدى ستين عاماً ومن خلال ثلاثة رؤساء من الجيش. فالجيش هو مفجر ثورة يوليو، وهو الضامن لثورة يناير 2011. والسلطة لها إغراءاتها: الزعامة، والعظمة، والصدارة، والقيادة أولاً، ثم المال والنهب والفساد والثروة ثانيّاً. فأين ذلك من مطالب الثورة، الحكم المدني؟

4- سقوط رأس النظام دون جسده. فما زال النظام السابق قائماً في مؤسسات الدولة، الحزب الحاكم، الإعلام، المجالس المحلية، المحافظين، مباحث أمن الدولة، أجهزة وزارة الداخلية، أصحاب الشركات الكبرى. وهم ليسوا مجرد فلول النظام السابق، بل لديهم في بعض المواقع السلطة الفعلية. ويصعب على من بيده السلطة أن يتركها طوعاً. وهم الذين بدأوا منذ أيام الثورة الأولى بالاعتداء عليها إما بالطريق التقليدي، العصي، أو بطرق غير تقليدية منذ الانسحاب من الميدان وترك المجال للمخربين، وخريجي السجون للتدمير والنهب لتشويه الثورة أو للملثمين، أفراد الشرطة بملابس مدنية للعدوان على الثوار كما حدث ليلة واقعة الجمل والخيول. ومن هذه الفلول يُعيد النظام السابق تنظيم صفوفه للقيام بثورة مضادة باسم الأمن والنظام.

5- وقوع تناقض بين الثوار أنفسهم، فهم فصائل متعددة، تجمعوا من خلال وسائل الاتصال الحديثة دون معرفة سابقة أو تجربة سياسية مشتركة. وحدتهم الثورة. واتفقوا على مطالبها. وانضمت إليهم أحزاب المعارضة القديمة التي كانت تنظيمات هيكلية بلا جماهير شعبية، وجدت في الثورة ضالتها. والثوار لا تنظيم جامع لهم، يتحدث باسمهم، ويعرض مطالبهم. وأحزاب المعارضة ما زالت تبحث عن السلطة وتدخل في الحوار مع الجيش لتحديد حصتها من السلطة، فهي أقرب إلى السلطة منها إلى الثورة وإن كانت على مسافات مختلفة. فإذا كانت الثورة طريقاً إلى السلطة في البداية فإن السلطة قد تكون طريقاً إلى الثورة في النهاية . وقد ينشأ صراع بين المنهجين المعروفين في كل ثورة. إصلاح أم ثورة؟ ثورة جزئية أم شاملة؟ ثورة تدريجية أم فورية؟ ثورة حتى النصر أم ثورة انتصرت؟

6- على رغم وضوح مطالب الثورة المبدئية العشرة الأولى وتدوينها وإرسالها إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة باعتباره الأمين على الثورة إلا أن الثوار قد يختلفون على المدى الزمني لتحقيقها، على الفور أم على التراخي بتعبير الفقهاء في أداء الواجبات الشرعية؟ كما قد يختلف الثوار على الأولويات في تحقيقها، إقالة الوزارة بوجوهها القديمة التي حلف رئيسها الولاء أمام الرئيس السابق أم إلغاء الأحكام العرفية والإفراج عن المعتقلين السياسيين؟ هل يتم تشكيل لجنة لكتابة دستور جديد يعطي الشعب حقه في الحرية السياسية وتشكيل الأحزاب واختيار الرئيس، أم الاكتفاء الآن بتعديل بعض المواد المقيدة للحريات التي تجعل مدة الرئاسة بلا حدود، وتعطي الرئيس سلطات مطلقة وتجعل الترشيح للرئاسة شبه مستحيل لصعوبة تحقيق شروطها المفصلة على الرئيس السابق وابنه؟ وقد يختلف الثوار على تشكيل الحزب أو الأحزاب الجديدة، اسمها، برامجها، أهدافها فتتفتت الثورة الموحدة في الأهداف.

7- برودة الحرارة الثورية بفعل الوقت، وتوقف المد الثوري بفعل الزمن. فالثورة حياة، تولد وتنمو وتخبو. وتلك طبيعة الطاقة تتولد في مكان وتتسرب ثم تتولد في مكان آخر. قد يحدث ملل من التجمع في ميدان التحرير. فيفقد الدافع على الذهاب إليه. وقد يتعود الناس عليه فيصبح جزءاً من حياتهم اليومية لا استثناء فيه. قد يغرق الناس في مشاغلهم اليومية ويتكيفون معها. يفيقون من الحلم، ويعودون إلى الواقع. وينتقلون من الخيال إلى العالم المرئي. وتتحول الثورة لديهم إلى حلم وخيال في البداية والنهاية. ولا يبقى منها إلا شعرها وفنها وأدبها، ذكريات تستدعى إذا ما تأزم الواقع من جديد، وبحث عن حاضره في ماضيه.

8- الثورة هدم لنظام قديم أكثر منها بناء لنظام جديد. والهدم سهل، والبناء صعب. قد تؤدي الثورة إلى فراغ إداري نظراً لغياب المؤسسات، ويتعطل الإنتاج، ويفرح العمال بالاستيلاء على المصانع، والفلاحون باسترداد الأراضي، والطلبة بالسيطرة على مجالس الكليات والجامعات كما هو الحال في الأغنية الشهيرة لإمام ونجم quot;عمال وفلاحين وطلبةquot;. فقد دقت الساعة. وهل حصيلة الثورة هي الفراغ الثوري؟ وتكون فرصة للثورة المضادة للانقضاض على الثورة التي لم تتحول إلى كيان ثوري. وهو إشكال في كل ثورة، التحول من الثورة إلى الدولة. فكيف تواجه الثورة هذه التحديات؟