درسان مختلفان من... ليبيا واليمن

الحياة
جورج سمعان
بقدر ما اقتربت الثورتان في كل من تونس ومصر من نهايتهما السعيدة، تبدو الأوضاع في كل من ليبيا واليمن أكثر تعقيداً وصعوبة. وتتجه نحو نهايات غامضة أو ضبابية حتى الآن قد تطول معها عذابات الناس وآلامهم. الأسباب التي حركت وتحرك الشارع في هذه البلدان العربية تكاد تكون مشابهة. لكن الظروف في كل بلد تختلف. يختلف التاريخ والتركيبة الاجتماعية والعلاقات ومدى التجانس بين مكونات هذه التركيبة. تختلف الثقافة والعلاقات مع الإقليم والمجتمع الدولي... هذا ما يتضح في الجماهيرية واليمن. لذلك لا مبالغة في القول إن ما ستؤول إليه نتائج الحراك في كل من هذين البلدين سيترك آثاراً سلبية على أي حراك شعبي لدى جيرانهما. لن يكون سهلاً مثلاً على الجزائريين والمغاربة أو حتى على غيرهم أن يتلمسوا سلفاً نهاية أي انتفاضة أو ثورة، كما فعل التونسيون أو المصريون. يجب أن يتوقفوا أمام الدرس الليبي، واليمني أيضاً.
بات واضحاً أن النظام الليبي يستعصي على السقوط بسهولة، بسبب عوامل كثيرة، على رأسها الجهوية والقبائلية، وإن كابر الليبيون. تماماً كما فعل العراقيون الذين كانوا يغضبون حين يقال لهم إنكم تقتربون من المحاصصة على الطريقة اللبنانية. وها هم بعد سبع سنوات على سقوط نظام صدام حسين يغرقون في المحاصصة الطائفية والمذهبية.
الانقسام القائم في ليبيا اليوم بين الشرق والغرب، بين بنغازي وطرابلس، يعيد الذاكرة إلى تاريخ ليس ببعيد. إلى انقسام ثقافي وسياسي وتاريخي بين هاتين المنطقتين اللتين لم تعرفا الوحدة سوى منتصف القرن الماضي في ظل قيام المملكة الليبية المتحدة التي أعلنها الملك إدريس السنوسي وجمعت الأقاليم الليبية الثلاثة. لذلك استعجل أهل الشرق في استعادة علم المملكة تاركين لأهل الغرب والجنوب الغربي علم laquo;الجماهيريةraquo;. هذا الانقسام أخرج الثورة من سلميتها. انتظم الليبيون في معسكرين متحاربين على نحو يصعب بعده أن يلتحموا من دون دماء. فإذا انتصرت كتائب معمر القذافي ومرتزقته - وهو أمر مستبعد - فإنها ستواصل أعمال القتل. أما إذا انتصر الثوار فإنهم أيضاً سيلجأون إلى الانتقام من أنصار القذافي الذين حكموا البلاد طوال 42 عاماً بالحديد والنار والإذلال... في كلا الحالين دم كثير سيراق في الجماهيرية على مذبح التغيير، خصوصاً أن الثوار باتوا يحملون السلاح ويتدربون مع فرق عسكرية انضمت إلى صفوفهم.
دخلت ليبيا مرحلة من العنف المتبادل الذي قد يأخذ شكل حرب أهلية إذا طالت هذه المرحلة من دون أن يحسم الثوار المعركة لمصلحتهم مدعومين بكل الإجراءات التي يتخذها المجتمع الدولي، خصوصاً الولايات المتحدة والدول الأوروبية. والمشكلة مع الثوار الليبيين أنهم يريدون مساعدة دولية لكنهم لا يريدون هذه المساعدة كما في الحال العراقية. يريدون أن تدعمهم الولايات المتحدة والدول الأوروبية، لكنهم يريدون هذه المساعدة بالقدر الذي لا يبدون فيه كمن استعانوا بالاجنبي في إزاحة القذافي. يريدون تدخلاً ولا يريدون! بل إن بعضهم يحذر من أن التدخل العسكري الأجنبي سيدفع بالوضع إلى وجهة معاكسة تماماً. أي أن الليبيين قد يلتفون مجدداً حول القذافي! وعلى رغم أن الأميركيين والأوروبيين عبروا بوضوح وصراحة عن رغبتهم في وجوب رحيل القذافي ويسعون إلى معاقبته ومحاصرته... إلا أنهم يعبرون أيضاً عن صعوبة إقامة مظلة فوق ليبيا تحول دون استخدام النظام قواته الجوية من دون تدخل عسكري مباشر جوي أو بري.
ليبيا قد تتحول إلى صومال آخر على شواطئ المتوسط... ما لم يحدث شرخ في جبهة النظام على مستوى القبائل التي لا تزال تقف إلى جانبه. فبعض الليبيين، مثلهم مثل اليمنيين، ليس سهلاً تخليهم عن نظام أقاموا فيه مراكز قوى ومصالح لأنصار وأبناء القبيلة والجهة والطائفة. ليس سهلاً أن يتخلى جميع هؤلاء المستفيدين عن مصالحهم. لهم مصلحة توازي مصلحة النظام في الدفاع عن laquo;شرعيةraquo; لم يعد هذا النظام يحظى بها، لا في الداخل ولا في الخارج. هذا ما ورط أحياناً الرئيس زين العابدين بن علي وبعده الرئيس حسني مبارك اللذين حاولا الممانعة في الأيام الأولى من الثورة في بلديهما مدفوعين بمراكز القوى هذه وجيش المتنفعين. لكن ممانعتهما جاءت متأخرة. الوضع الآن في طرابلس شبيه بما يحدث في صنعاء. لن يترك العقيد معمر القذافي السلطة، ولن يترك علي عبدالله صالح السلطة... ما دامت هناك قوى لا تزال ترى مصلحة في بقاء كلا النظامين، أو على الأقل في تحسين شروط رحيلهما.
وإذا كانت ليبيا دخلت نفق العنف المتبادل، فإن الوضع في اليمن قد يظل في منأى عن السلاح. لا يبدو أن أحداً يرغب في اللجوء إلى السلاح في بلاد ليس فيها غير السلاح. ولا يبدو أن أحداً يرغب في تجربة من هذا النوع لئلا تستيقظ شياطين الثارات القبلية، قديمها وحديثها. وعندها لا يعود هناك أي معنى للتغيير أو الثورة. المسألة في اليمن لها خصوصيتها. لا تشبه ما حدث في تونس ومصر. ولا تشبه ما يحدث في ليبيا. الكلام على حرب أهلية في اليمن هو أقرب إلى التهويل منه إلى الواقع. وحتى التقسيم يبدو بعيداً. بل إن نزعة الانفصال التي ميزت حراك أهل الجنوب خفت لهجتها. الانفصاليون ينتظرون ماذا سيحمل التغيير الذي سيحصل في البلاد عاجلاً أم آجلاً. قد تتفاقم الفوضى إذا لم يتوصل النظام إلى إبرام صفقة مع خصومه. إذ حتى هؤلاء بات الشارع يسبقهم ويفاقم ضغوطه عليهم. أي أن الغاضبين باتوا يفرضون أجندتهم بعيداً من الأحزاب والقوى والقبائل. لذلك تبدلت هذه القوى وغيرت وتغير كل يوم مواقفها.
حتى الآن الرئيس علي عبدالله صالح يسمع فقط. لا يبدي أي تجاوب مع ما تطرحه هيئة العلماء. لا يبدو أنه يريد أن يساعد في إيجاد مخرج لإنقاذ البلاد من الفوضى. ولا يبدو أنه يريد مساعدة أحد على إيجاد صيغة تحفظ له خروجاً مشرفاً وتحفظ له ولأنصاره كرامته وكرامتهم. يمكنه بدل التمسك بإكمال ولايته، أن يقترح حلاً وسطاً، فيعلن تخليه قبل نهاية هذه الولاية. يكون بذلك تقدم خطوة نحو اقتراح هيئة العلماء تنحيه نهاية السنة، في إطار جدول زمني تتخلله إجراءات تنقل البلاد إلى أجواء أكثر صلاحاً وحريات ومشاركة في السلطة، وتمهد لانتخابات برلمانية ورئاسية. المعاندة لن تفيد الرئيس. ستطيل عذابات اليمنيين. وستفاقم متاعب السلطة التي لن تستطيع الحكم مهما فعلت ومهما قدمت من إغراءات لم تعد تغري أحداً. التغيير في اليمن حاصل لا محالة... ولكن في إطار صفقة. هذا ما يقره النظام نفسه. يبقى السؤال: متى يقع هذا التغيير وكيف؟
إن ما يشهده اليمن يحظى ربما باهتمام دولي أكبر مما هي حال ليبيا. فلا تمكن المجازفة بتداعيات ما يحصل وآثاره على كل المنطقة المجاورة، من شبه الجزيرة إلى القرن الأفريقي. خصوصاً أن البلاد تكاد تتحول القاعدة الأولى لتنظيم laquo;القاعدةraquo; بعد أفغانستان وباكستان. ولا يمكن الفوضى إلا أن تعزز مواقع التنظيم. وهو ما لا يمكن الذين يخوضون إقليمياً ودولياً حرباً على الإرهاب القبول به أو التسليم بحدوثه.
لا جدال في أن الشارع سيكسب الرهان في نهاية المطاف، ولكن بكلفة كبيرة. لن يستطيع العقيد القذافي ولا العقيد علي عبدالله صالح الوقوف في وجه الإرادة الدولية، وفي وجه إرادة الناس. والتركيبة الاجتماعية الدقيقة التي تفرض قواعدها على اللاعبين في كلا البلدين فتقيد حركتهم، وتضع شروطاً قاسية على مساعي التغيير، تبقى هي أيضاً جزءاً من موازين قوى تتجاوز التركيبة الداخلية لتشمل الإقليم أيضاً... هذا الإقليم الذي يتعرض لعاصفة عاتية من التغيير الذي لن تقف في وجهه عقبات أو اعتبارات مهما طالت الأيام.
معمّر القذّافي شخصان في شخص واحد!
خيرالله خيرالله
المستقبل البنانية
في كل مرة يتحدث العقيد معمّر القذافي، يتبين ان هناك شخصين في شخص واحد. هناك القذافي الذي يعرف تماماً الواقع ويسعى إلى التعاطي معه. وهناك قذّافي آخر يرفض الواقع ويصرّ على العيش في عالم خاص به لا علاقة له من قريب او بعيد بالحقيقة المرة التي يرفض شرب كاسها. ببساطة، لم يستطع معمّر القذافي تغيير ليبيا وطبيعة الشعب على الرغم انه بقي حاكماً مطلق الصلاحية طوال اثنين واربعين عاماً.
على سبيل المثال وليس الحصر يقول الزعيم الليبي في خطاب قبل ايام ان هناك اطماعاً للغرب عمومًا في النفط الليبي وان هناك من يحاول استعمار ليبيا مجدداً. هذا صحيح إلى حدّ كبير. لكنه يقول ايضا في الخطاب نفسه ان احداً لم يتظاهر ضده في ليبيا وان الناس لا تزال quot;تحلف برأسهquot;. هذا ليس صحيحاً في اي شكل بمقدار انه تعام عن الحقيقة ورفض لها ورهان على امكان قلب الوضع لمصلحته بعدما تبين انه لا يزال يمتلك آلة عسكرية قادرة على الدفاع عن طرابلس والسيطرة عليها عسكرياً ومنع الخروج منها.
اذا كان لا بدّ من استخلاص الدروس من التجارب التي مرّ فيها النظام الليبي منذ وصول القذّافي إلى السلطة في العام 1969، فإن الدرس الاول الذي يمكن استخلاصه هو ان الزعيم الليبي لم يستطع فهم العالم او المجتمع الدولي. كان يفهم احيانا ويبدو كمن تعلّم الدرس. ولكن فجأة، كان يعود إلى طبيعته الاولى، طبيعة المستبد الذي يظن ان عليه نشر البؤس والفقر في كل انحاء ليبيا كي يضمن بقاءه في السلطة.
بكلام اوضح، رفض القذّافي فهم انه خضع لعملية اعادة تأهيل وانه كان في استمرار تحت المراقبة. لم يدرك الزعيم الليبي انه كان عليه مباشرة اصلاحات في العمق والتخلي عن نظام اسمه quot;الجماهيريةquot; جلب على الشعب الليبي الويلات وجعله على استعداد لاغتنام اي فرصة للانقضاض على quot;الجماهيريةquot; بكل ما تمثله من تخلف.
في مطلع التسعينات من القرن الماضي، وبعد فرض عقوبات دولية على ليبيا بسبب قضية لوكربي، طرح مفكرون وسياسيون مصريون فكرة اقامة وحدة بين مصر وليبيا تؤدي إلى قيام كيان سياسي جديد لا تنسحب عليه العقوبات الدولية وذلك من منطلق ان ليبيا-القذافي ذابت في هذا الكيان. لم تكن الفكرة واقعية او عملية. لكن مجرد طرحها كان كافياً لاثارة تساؤلات في اوساط معارضين ليبيين مرتبطين بشكل او بآخر بالاجهزة الاميركية. وقد توجه وفد من هؤلاء إلى وزارة الخارجية في واشنطن للاستفسار عن مدى جديّة احتمال قيام الوحدة بين مصر وليبيا وما اذا كان يمكن ان يؤدي ذلك إلى تمكين quot;جماهيريةquot; القذافي من تجاوز العقوبات الدولية. كان رهان هؤلاء المعارضين على العقوبات الدولية واستمرارها من اجل اسقاط النظام يوماً. لكن المسؤولين الاميركيين الذين كانوا على اتصال بهم سارعوا إلى طمأنتهم عن طريق تأكيد لا مجال لاي وحدة من اي نوع كان بين مصر وليبيا لسبب في غاية البساطة هو ان quot;ليبيا دولة نفطية وليس مسموحاً لمصر بان تمد يدها إلى النفط الليبيquot;. نقل احد اعضاء الوفد الليبي عن مسؤول اميركي قوله انه مسموح لمصر بان يكون احد مواطنيها في موقع الامين العام للامم المتحدة. وقد شغل الدكتور بطرس غالي الموقع. كما مسموح لمصر ان تصر على ان يكون الامين العام لجامعة الدول العربية مصرياً... اما ليبيا، فهذا شان آخر لا تساهل اميركياً حياله بسبب النفط!
في مرحلة معينة، بدا القذافي وكأنه فهم المعادلة وانه استوعب معنى الاهتمام الاميركي بالنفط الليبي. لعب اللعبة على اصولها، خصوصا في المرحلة التي مهدت لرفع العقوبات الدولية وتلك التي تلتها. كان اول ما فعله وقتذاك استمالة شركات النفط الاميركية مع مراعاة للاوروبيين، على راسهم بريطانيا التي سارع رئيس الوزراء فيها توني بلير إلى زيارة طرابلس بعيد رفع العقوبات عن quot;الجماهيريةquot;. بدا في مرحلة معينة، مطلع القرن الواحد والعشرين، انه فهم الدرس اكثر مما يلزم إلى درجة قرر فيها التخلي عن اسلحة الدمار الشامل بعدما اكتشف ان الاميركيين على علم تام بالتفاصيل المملة بكل ما يقوم به، بما في ذلك العلاقة بين مساعديه والعالم النووي الباكستاني عبدالقدير خان.
في السنة 2011، يتبين ان القذّافي فهم نصف المعادلة. فهم ما يريد فهمه من المعادلة. انه يدفع حاليا ثمن الاعتقاد بان الاستسلام للاميركيين يغنيه عن القيام بالاصلاحات المطلوبة وان ليس ما يمنع ممارسة القمع. لم يفهم القذّافي ان رفع العقوبات عن ليبيا كان جزءا من صفقة لا تشمل النفط فقط. كان مطلوباً تغيير النظام بشكل جذري والانفتاح على العالم وليس العودة إلى استخدام اموال النفط لدعم هذا الديكتاتور الافريقي او ذاك...
لا شكّ ان معمّر القذّافي شخص ذكي. لو لم يكن الامر كذلك، لما بقي في السلطة اثنين واربعين عاماً. لكن ذكاء العقيد توقف عند فهم المطلوب منه في مرحلة معينة. وقف حتى في وجه نجله سيف الاسلام عندما بدأ يطرح برنامجاً اصلاحياً وذلك بغض النظر عن مؤهلات الرجل وما اذا كان يحق له خلافة والده. لكن العقبة الاهم التي لم يتغلب عليها ذكاء القذافي هي الشعب الليبي. لم يستطع في اي لحظة التقاط ان الشعب ضد quot;الجماهيريةquot; وضد نظامه الذي انتهى بالطريقة التي انتهى بها. انتهى وليبيا تواجه خطر تدخل عسكري تبحث واشنطن حاليا عن غطاء دولي له... او حرباً اهلية معروف كيف تبدأ وليس معروفاً كيف ستنتهي.