طراد بن سعيد العمري


يحكى أن أحد الباشوات في مصر ضاقت به الحال بعد ثورة 23 يوليو 1952 وانتهاء عصر الملكية وعهد الإقطاع ومصادرة الأملاك، فاضطر إلى تسريح العاملين لديه وزراعة الجرجير في جزء من حديقته الخلفية والخروج لبيعها في الشوارع وهو ينادي laquo;قرقير يا كلابraquo;. المشهد ذاته تكرر بعد ثورة 25 يناير 2011 حيث خرج أحد ضباط الأمن من بقايا العهد البائد لكي يرعد ويزبد ويتباهى بأن ضباط الأمن أسياد المواطنين ويهدد بضرب الخارجين عن القانون بالحذاء، ويقول laquo;إللي تمتد إيده على سيده ينضرب بالقزمةraquo;، فما كان من الحكومة إلا أن سرّحته وأعفته من منصبه. لم يستطع كل من الباشا والضابط التخلص من العقلية القديمة واستيعاب المتغيرات فتصرفا على أساس موروثهما الفكري وتحدثا بخطاب عفا عليه الزمن ولم يعد مقبولاً.

استاذنا الكاتب والمفكر السياسي ورئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشورى المصري الدكتور مصطفى الفقي، كتب مقالاً بعنوان laquo;طوفان الغضب ... التوقيت والدوافعraquo; (laquo;الحياةraquo;- 1 آذار/مارس 2011)، وفي مقدمة المقال - التي يبدو أنه حشرها بقوة في أصل المقال - حمل بشدة على كاتب هذه السطور لمجرد مناقشة أمر من شؤون الجامعة العربية مثل اختيار أمين عام جديد من خارج مصر أو نقل مقر الجامعة من القاهرة، واعتبر أن في ذلك إلقاء laquo;أحجار ثقيلة على الدولة المصريةraquo; و laquo;إقلالاً من حجم مصر ودورهاraquo;. الغريب، أنه على الرغم من أن ثورة 25 يناير فرضت أسلوباً جديداً ومغايراً لما كان قبل الثورة وكسرت جميع الحواجز النفسية وأوصلت مطالب الشباب إلى حد لا يقاس ويتعدى بأضعاف ما كان يفكر فيه عواجيز الثقافة والساسة في مصر، لكن يبدو أنها أقل تأثيراً في صيغة وشكل الخطاب مع الخارج، ولذا، يستنكر علينا أستاذنا الكاتب التعبير وإبداء الرأي حول أمور الجامعة العربية أو الشخصية العامة التي تدير شؤونها. وفي هذا كيل بمكيالين لا يستقيم وفكر أستاذنا الفاضل. من ناحية أخرى، نجزم بأن نقد عمرو موسى لا يشكل إلقاء حجارة على مصر حتى لو كان مرشحاً لرئاستها! كما أن المطالبة بتغيير جنسية الأمين العام للجامعة أو نقل مقرها، لن يكونا بأي حال من الأحوال إقلالاً من شأن وحجم مصر حتى لو كان أستاذنا مصطفى الفقي مرشحاً لخلافة عمرو موسى في إمانتها! الاتهام غير المبرر لكل من يحاول مناقشة أمر جامعة الدول العربية والإدعاء بأن ذلك إساءة لمصر يذكرني ببعض الأقوام في بلادي الطيبة عندما يلصقون تهمة الكفر والعلمانية والخيانة والخروج عن الثوابت لمجرد الكتابة عن التحديث أو أي من شؤون المرأة، في محاولة يائسة بائسة لإسكات وتخويف المجتمع. أستاذنا الفاضل كتب باندفاع وحمّل المقال أكثر مما يحتمل لمجرد مناقشة شؤون الجامعة العربية، خصوصاً أننا حذرنا من ذلك في المقال ذاته وقلنا بالحرف الواحد laquo;أصبح مجرد الحديث عن اختيار أمين عام غير مصري أو التفكير في نقل مقر الجامعة من القاهرة هو بمثابة إهانة لمصر أو تعدٍّ على السيادة المصرية أو انتقاص من دورها المحوري، وهذا بطبيعة الحال ومنطق الأشياء تفكير متخشب وهيمنة ليس لها من تفسيرraquo;. وأستغرب، ثانياً، أن ينبري شخص بمكانة وحجم وعقل ورؤية الدكتور مصطفى الفقي للدفاع عن عمرو موسى أو عن الجامعة بذريعة استهداف مصر، وهو الأخصائي في بورصة البشر، كما يدعي، والحاصل على العديد من الجوائز في الخطابة والمقال وأفضل الكتاب في الفكر السياسي. فهل دفاعه عن عمرو موسى، وهجومه على كاتب هذه السطور سيضمن له مكانة أكبر؟ إننا وبكل تجرد وموضوعية، نجزم بأن الدكتور الفقي يملك من الخبرة والمواهب والثقافة والمعرفة والمنطق التاريخي والسياسي وقبل كل ذلك الرؤية ما يمكنه من أن يكون أحد قادة الشأن في مصر للمرحلة المقبلة أفضل ألف مرة من عمرو موسى، سواء في رئاسة الجمهورية أو رئاسة الوزراء أو مجلس الشورى. صحيح أنه متهم بمسك العصا من النصف، كما يقول المثل، وصحيح، أيضاً، أنه ظُلم في الماضي ولم يعط ما يستحقه من مناصب، وصحيح ثالثاً، أنه ليس بمرتبة وزير مما يمنح معالي الأمين العام فرصة للتفضل على أستاذنا الكبير باستخدام نفوذه عبر الهاتف للتغاضي عن بعض معايير الترشيح، لكن مرحلة مصطفى الفقي قد أتت والحاجة له حلّت لخدمة مصر المستقبل وأصبحت أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى. بمعنى آخر، سحب اسم مفيد شهاب وترشيح مصطفى الفقي لمنصب الأمين العام لجامعة الدول العربية هو إخراجه عن المشهد السياسي الداخلي ودائرة المنافسة أو نقد المشهد السياسي في المقبل من الأيام ويحمل في مضمونه أمرين: أحسنهما، في حال الموافقة واعتماد ترشيحه من جميع الدول الأعضاء، إزاحته عن الساحة المصرية وتوظيفه كما جرت العادة كمسؤول عن أحد أذرع الخارجية المصرية. أما أسوأهما، فهو إبعاده عن المنافسة في إدارة الشأن العام الداخلي في مصر والذي يحتاج إلى كل فرد مصري ذي عقل وفكر ورؤية.

أما عن الجامعة العربية وشؤونها فلم يعد لهذه المنظمة العجوز من تأثير في العلاقات البينية أو الدولية، فقد أفقدتها مصر عبر عقود الثورة، للأسف، مكانتها المفترضة وسخرتها لتأكيد نوع من الهيمنة على الشأن العربي، حتى أمست مكتب رسائل غير مباشر بين الحكام العرب. فإذا أرادت دولة ما رفض أو تقرير أمر ما فإن ذلك لا يأتي صراحة ولكن عبر الجامعة، فإن كانت من الدول ذات الفئة (أ) قام الأمين العام بدور السكرتير الأمين لفرض أو إحباط أي أمر بطرق شتى لا يرتقي أي منها إلى الحد الأدنى من المطلوب في التعامل الديبلوماسي. باختصار، الجامعة العربية ليست إلا منظمة متهالكة لم ولا ولن تلبي الحد الأدنى من متطلبات العمل العربي المشترك، وهي بالتأكيد قتل لموهبة وفكر أستاذنا الكبير مصطفى الفقي.

مصر الغد ليست بحاجة للجامعة العربية، كما أن الجامعة ليست بحاجة إلى مصر الأمس. مصر بحاجة إلى إعادة بناء الشخصية المصرية على أسس من العدل والمساواة بين الجميع في الداخل وبين مصر والدول والشعوب الأخرى في الخارج. وبقدر الإسراع في فهم واستيعاب التحولات الداخلية والخارجية بقدر الاقتراب من مصر الغد التي تنشدها أجيال المستقبل، وتفادي الانفصام الفكري الذي سينعكس سلباً على علاقات مصر بالخارج. هذا الانفصام الذي قال هنري كيسنجر أنه أصاب الولايات المتحدة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وعدم إدراك الساسة والمفكرين بأن العالم لم يعد ثنائي القطبية وأن فكر الحرب الباردة قد ولى بعد سقوط جدار برلين. وبالتالي، لا يمكن لمثقفي وقادة مصر أن يقبلوا - طوعاً أو كرهاً - التغير والتحول في الداخل ويرفضوه في الخارج. فمثلما عانى شعب مصر من فكر الثورة في عصور جمال وأنور وحسني التي جانبها الجمال والنور والحسن، فإن الدول العربية وشعوبها أيضاً عانت من فوقية مصرية غير مبررة، لا داعي للدخول في تفاصيلها وتذكر مرارتها.

أخيراً، أقدم خالص اعتذاري لأنني تسببت في إزعاج أستاذنا مصطفى الفقي وأود أن أعتب عليه في أمرين: الأول، تعديله هويتي إذ وصفني بكاتب عربي مع أنني كاتب سعودي وهذا يكفيني تعريفاً وتشريفاً، فلست من أنصار القومية العربية التي ولدت كرد على الحكم العثماني ومن ثم الاستعمار إلى أن تم اختطافها وبالتالي تسييسها لكي تصبح شعاراً فارغاً من محتواه للمزايدة فلم يزدنا ذلك إلا وبالاً وخبالاً. العتب الثاني قوله: laquo;ويبدو أنه يفكر بمعيار الثراء الذي يريد أن يكون به للغني صوتان أو ثلاثة بينما للفقير صوت واحد!raquo;، وهذه للأسف واحدة من الكبوات التي ما زال بعض مثقفينا العرب ساقطين فيها، فالكاتب يعرف قبل غيره أن هذا التفكير ليس إلا وهماً يعشعش في أذهان مثقفي دول الثورة طمعاً في دول الثروة حتى أصبح نهجاً متبعاً في كتابات الكثير منهم منذ سالف الزمان وأضحى أساس لعلاقة (الحب/ الكره) التي تجمع بينهم وبين عرب الخليج أو laquo;الأعرابraquo;، لدرجة أن واحداً من مثقفي الثورة أفتى بأن النفط في الجزيرة العربية مصادفة تاريخية. على أي حال، أنا على استعداد لتحمل هفوات أستاذنا الفقي بشرط دعوة على فنجان شاي laquo;كشريraquo; على ضفاف النيل.