قوات عاطف نجيبة ابن خالة الأسد أحرقت قصر العدل لتبرير القتل العشوائي وعشرات المضرجين بدمائهم في أروقة المستشفى الوطني

درعا: 150 قتيلاً في مجزرة بالأسلحة الثقيلة والأهالي جرفوا مقراً لـquot;البعثquot; ومركزاً للشرطة بالبلدوزرات

قوات الحرس الجمهوري وقوات خاصة تفرض حصاراً مشدداً على مدينة الحراك


أهالي جاسم وإنخل والحراك والصَورة وعتمان وعلما دخلوا درعا من 4 محاور


ضابط قتل عسكرياً بثلاث رصاصات في ظهره بعد رفضه اقتحام المستشفى بسلاحه


أهالي حمص والقنيطرة وحلب وحماة والسويداء يخرجون في تظاهرات حاشدة اليوم


قوات الفوج quot;45quot; منعت أهالي الحراك من إحراق منزل الأمين القطري لحزب البعث


غضب عارم في السويداء بسبب اعتقال هدى الأطرش بعد سحبها من منزلها بطريقة مهينة

درعا -خاص

السياسة الكويتية

كشفت معلومات خاصة لـquot;السياسةquot; من داخل محافظة درعا جنوب دمشق, الحقيقة الكاملة للاضطرابات منذ اندلاعها الجمعة الماضي, مؤكدة وقوع مجزرة رهيبة, لاتزال تتوالى فصولاً, راح ضحيتها ما يزيد على 150 قتيلاً على الأقل إضافة إلى مئات الجرحى, وفقاً لمعلومات تفصيلية تنفرد quot;السياسةquot; بنشرها في ظل التعتيم الإعلامي الذي يفرضه النظام السوري.


وأكد الناطق باسم ثوار درعا المستشار القانوني أمين الحريري, في اتصال مع quot;السياسةquot;, سقوط 100 قتيل على الأقل, أمس وأول من أمس, بينهم 40 كانت جثثهم مرمية في أروقة مستشفى درعا الوطني, استناداً إلى شهود عيان ومصادر طبية, مشدداً على أن أروقة المستشفى ممتلئة بالقتلى والجرحى المضرجين بدمائهم, بعد تعرضهم لقصف عشوائي من قبل قوات الأمن والحرس الجمهوري.
وأوضح أن عمليات الفحص السريري للقتلى والمصابين جرت في ممرات المستشفى نظراً لعدم وجود سيارات إسعاف لنقلها, كاشفاً أن الأطباء وجدوا في غالبية الجثث عيارات نارية غير تقليدية, تستخدم بالرشاشات الثقيلة وترمى على الطائرات من مضادات أرضية, وجرى تصوير الجثث وإرسال الصور إلى منظمات دولية حقوقية.


وكشف عن مقتل شابين هما راني الحريري (22 عاماً) والثاني يدعى أيمن الجربوعي, خلال إطلاق قوات الأمن النار, أمس, على حشود في مدينة الحراك, الواقعة في محافظة درعا, كانت تشيع القتلى الذين سقطوا, أول من أمس, بعد إطلاق النار من قبل قوات الأمن على الأهالي الذين قدموا من القرى والمناطق المحيطة بدرعا لفك الحصار الأمني عنها, وهم تحديداً من جاسم وإنخل والحراك والصَورة وعتمان وعلما.
وأوضح الحريري أن أهالي القرى دخلوا إلى مدينة درعا - البلد, حيث يوجد المسجد العمري, من أربعة محاور هي: محور الطيبة, ومحور خربة غزالة, ومحور عتمان, ومحور المزيريب - المطار.
وفي التفاصيل, قام أهالي الحراك, أمس, خلال تشييع قتيلين سقطا أول من أمس, بإحراق مخفر مديرية ناحية الحراك وجرفه بالبلدوزر, ما دفع قوات الأمن إلى تطويق المدينة وإطلاق النار عشوائياً على المتظاهرين, ما أسفر عن مقتل الشابين الحريري والجربوعي.


إثر ذلك, توجه الأهالي إلى مقر حزب البعث quot;الفاشيquot; - والكلام دائماً للناطق باسم الثوار - وقاموا بإحراقه وجرفه عن بكرة أبيه بالبلدوزرات, كما توجهوا إلى منزل الأمين القطري لحزب البعث الدكتور سليمان قداح وحاولوا إحراقه, إلا أن تدخل قوات quot;الفوج 45quot; حال دون ذلك, حيث فرضت حصاراً على المنزل لحمايته.
وحتى ساعة متأخرة من ليل أمس, كان الحصار المفروض على الحراك من قبل قوات الحرس الجمهوري والقوات الخاصة التابعة للفرقة 15 quot;الفوج 45quot;, لايزال مستمراً.
وروى الحريري لmacr;quot;السياسةquot; ما جرى في درعا منذ الأيام الأولى للاضطرابات, موضحاً أن محافظة درعا تقسم إلى قسمين: درعا البلد - حيث يوجد المسجد العمري الذي اقتحمته قوات الأمن فجر أول من أمس- والمحطة - حيث توجد المراكز الحكومية ومقر حزب البعث.


ونفى بشكل قاطع أن يكون المتظاهرون أحرقوا قصر العدل الأحد الماضي, كما ذكر النظام, مؤكداً أنه كان أمامه مع عشرة محامين ومستشارين وشاهدوا ما حدث فعلياً.
وشدد على أن الأهالي مروا خلال تشييع شهدائهم من أمام قصر العدل ورشقوه بالحجارة كما قاموا بقلب إحدى سيارات الشرطة, وبعد توجههم غرباً لإحراق مقر حزب البعث القديم والذي تحول إلى شعبة مدينة درعا (مقر للمخابرات), خرج أربعة عناصر يرتدون اللباس الأخضر (قوات حفظ النظام) وبرفقتهم أفراد من المخابرات باللباس المدني من قصر العدل. وبمجرد خروجهم اندلعت النيران في المبنى منن الطابق العلوي إلى الطابق السفلي.
وكشف الناطق باسم الثوار أن قوات الأمن السياسي التابعة للعميد عاطف نجيبة ابن خالة الرئيس بشار الأسد, هي التي قامت بإحراق قصر العدل, مؤكداً أن الهدف من ذلك هو تبرير عمليات quot;القتل العشوائيquot; الجارية, كون قانون الطوارئ المعمول به منذ أكثر من أربعة عقود, يجيز القتل بهذه الطريقة في حال الاعتداء على ممتلكات عامة.
وبشأن العسكري الذي أعلن النظام مقتله على أيدي المتظاهرين في درعا, نفى الحريري بشدة هذه المعلومات, كاشفاً أن الضحية رفض تنفيذ أوامر عسكرية بدخوله إلى المستشفى بسلاحه, فأقدم ضابط برتبة نقيب على قتله بإطلاق 3 رصاصات على ظهره من مسدس من نوع quot;كولتquot;.


وتحدث الناطق باسم الثوار عن تردد معلومات عن وجود عناصر من ميليشيا quot;الباسيجquot; الايرانية إلى جانب قوات النظام, كاشفاً عن وجود قوات ترتدي اللباس الأسود عليها عبارة quot;F - A- Fquot; وتحمل هراوات كهربائية وأسلحة غريبة من نوعها, مشدداً على أن هذه القوات تشاهد للمرة الأولى في سورية.


وأعلن أهالي درعا اليوم الجمعة quot;يوم غضبquot;, وفقا للحريري, الذي أكد أن أهالي محافظتي حمص والقنيطرة سيخرجون في تظاهرات حاشدة أيضاً, معرباً عن أمله في انضمام حلب وحماة والسويداء إلى الاحتجاجات.
وكشف عن وجود غضب عارم في صفوف أهالي السويداء بسبب اعتقال هدى الأطرش, حفيدة قائد الثورة السورية الراحل, مؤكداً أنه تم سحبها منزلها بطريقة مهينة وغير أدبية من قبل رجال الأمن.
وناشد الناطق باسم الثوار عبر quot;السياسةquot;, التي أكد أن quot;السوريين لم يروا منها إلا الحقquot;, جميع المنظمات الإعلامية والدولية للتدخل سريعاً ضد النظام السوري لحمله على وقف quot;عمليات القتل المنظمquot; وquot;المجازرquot;.
وتقاطعت معلومات الناطق الرسمي باسم الثوار لmacr;quot;السياسةquot;, مع تأكيدات ناشطين حقوقيين وشهود عيان عن سقوط ما بين 100 و150 قتيلاً في درعا برصاص قوات الأمن.
وقال الناشط أيمن الاسود لوكالة quot;فرانس برسquot; ان quot;مجزرة امس (أول من أمس) تكشفت اليوم (أمس) وما جرى يذكرنا بالزاوية ومصراتةquot; المدينتين الليبيتين اللتين تعرضتا لهجمات شرسة شنتها قوات الزعيم الليبي معمر القذافي بعد سقوطها بأيدي الثوار.


واكد ناشط اخر ان عدد الضحايا في مدينة درعا والقرى المجاورة لها quot;قد يتجاوز الmacr;150 قتيلاًquot;, مضيفاً ان quot;العديد من القتلى مواطنون جاؤوا من القرى المجاورة لدرعا للمشاركة في التشييع وقامت قوات الأمن بإطلاق النار عليهمquot;.


وقال ناشط ثالث ان quot;عشرات الالاف من المواطنين جاؤوا من القرى المجاورة ولدى وصولهم الى الشارع الرئيسي بين دوار البريد ودوار بيت المحافظ قامت قوى الامن باطلاق النار عليهمquot;.
وقام سكان درعا, أمس, بتشييع ستة من القتلى, بحسب الناشطين الحقوقيين الذين قال احدهم أن أكثر من عشرين ألف متظاهر شاركوا في مراسم التشييع.
وردد المتظاهرون quot;بالروح بالدم نفديك يا شهيدquot;, وتوجهوا من المسجد العمري الى المقبرة.


في المقابل, قالت المستشارة السياسية والاعلامية للرئيس السوري بثينة شعبان أن quot;عدد القتلى بلغ عشرة اشخاصquot; فقط منذ اندلاع الاحداث في درعا.

النظام السوري بعد مجزرة الجامع العمري: اقتربت الساعة!


صبحي حديدي

القدس العربي


خلال السنوات الثلاثين من حكم حافظ الأسد أُريقت دماء السوريين مراراً، بدم بارد، في صيغة مجازر جماعية واسعة النطاق (مدينة حماة، شباط/ فبراير 1982: 30 إلى 40 ألف قتيل)، أو مجازر أضيق نطاقاً وأقلّ ضحايا (جبل الزاوية، 13ـ15/5/1980: 14 ضحية؛ سرمدا، 25/7/1980: 11 ضحية؛ سوق الأحد، حلب، 13/7/1980: 43 ضحية؛ ساحة العباسيين، دمشق، 18/8/1980: 60 ضحية؛ حيّ المشارقة، حلب، 11/8/1980، صبيحة عيد الفطر: 100 ضحية...). يُضاف إلى هؤلاء مئات القتلى في السجون، سواء بسبب التصفيات الجماعية المباشرة (مجزرة سجن تدمر، 27/6/1980: 500 ضحية على الأقل)، أو تحت أفانين تعذيب كانت تتجاوز النزوعات السادية إلى الحقد الهمجي الصرف؛ وآلاف المفقودين (17 ألفا، في إحصاء منظمات حقوق الإنسان المستقلة).
ليس جديداً، إذاً، أن يستأنف بشار الأسد هذا الإرث الدامي في محافظة ومدينة درعا هذه الأيام، بطرائق ليست البتة أقلّ همجية، وإنْ كانت تنهض على مقاربة تختلف بهذا المقدار النسبي أو ذاك، بسبب من متغيرات شتى تخصّ الشارع الشعبي، والمحيط الإقليمي، وأنساق التواصل، ومناقلة المعلومات، وسطوة الصورة؛ فضلاً، بالطبع، عن صفات تخصّ شخصية الوريث ذاته، بينها الطيش وقلّة الخبرة والغطرسة وقصر النظر والفذلكة العقلية واستيهام الشعبية. وليس بمنأى عن المنطق البسيط، استطراداً، أنّ تكون 11 سنة من توريث الابن هي محض إضافة حسابية إلى سنوات حكم الأب.
وذات يوم نُسب إلى الأسد الابن قوله، في اجتماع مشترك للقيادة القطرية لحزب البعث وقادة الأجهزة الأمنية، إنّ 'حافظ الأسد يحكم سورية من قبره'، ولم تكن العبارة مزيجاً من الوعيد والتهديد والتمنّي، فحسب؛ بل انطوت على مقدار كبير من الصحة، عملياً، لجهة إدامة الإستبداد والفساد، والحفاظ على بنية النظام وتوازناته الداخلية الأساسية، ومحاصصة القوّة وأنساق النفوذ وحُسن توزيعها على الأطراف. وهذه السطور ستكتفي بالشأن الداخلي السوري في استقراء انعكاس صيغة الحكم من القبر، مع إشارة ضرورية إلى انعكاساتها في السياسة الخارجية أيضاً، ولكن ضمن مواصفات القصور ذاتها التي اتصف بها الابن بالمقارنة مع الأب.
وأجد ضرورة في التأكيد، اليوم أيضاً، على جانب خاصّ في حكاية حكم الموتى للأحياء، هو أنّ النرجسية العالية (التي يردّد العارفون بشخصية الأسد الابن أنها العنصر الطاغي على تفكيره اليوميّ)، قد لا تكتفي بتحويل ماضي 'الحركة التصحيحية' إلى مرجعية دائمة للحاضر وللمستقبل، فحسب؛ إذْ قد تنتقل، في طور لاحق أخذ يتجلى أكثر فأكثر، إلى نزوع طبيعي نحو قتل الأب، ليس كرهاً له بالطبع، وليس حرصاً على محو ذكراه أيضاً، بل رغبة في التفوّق على صورته القوية المهيمنة. وبذلك فإنّ العبارة يمكن أن تحمل المدلولَيْن، معاً، وبصفة متكاملة: أنّ الأب حاكم لأنّ تراثه مقيم، ثابت، مقدّس؛ وأنّ قتله خطوة واجبة لكي يدخل تراثه ذاك في صيرورة تحوّل، باسم الابن هذه المرّة!
أجدني، كذلك، أستعيد هذه الفقرة الدالة، من حديث الأسد الابن مع صحيفة 'نيويورك تايمز' الأمريكية، أواخر العام 2003 (وهي فقرة حذفتها وكالة الأنباء السورية، ولم تُنشر في أيّ من الصحف السورية الرسمية)، جواباً على السؤال التالي: 'تدور في مصر نقاشات حول مَن سيعقب مبارك، ويقول البعض هناك: نحن لسنا سورية. أترى في هذا إهانة لكم'؟ أجاب الأسد: 'كلا، لأنّ الرئيس الأسد ليس هو الذي جاء بي إلى السلطة. حين توفي لم أكن أتولى أيّ منصب. ولهذا يجب أن تتوجه بالسؤال إلى الشعب السوري. إذا ذهبت إلى الـ CNN وغيرها من المحطات التي أجرت مقابلات مع السوريين، ستجد أنني جئت من خلال السوريين، وليس من خلال الرئيس الأسد'!
وهكذا، لم يتوقف الابن عند تذكير الناس بكلّ ما انطوت عليه عقود 'الحركة التصحيحية' من قمع وفساد ونهب وتخريب، للسياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والنسيج الوطني والسلم الأهلي، بل ذهب أبعد وأسوأ، واختار من ألوان الإستبداد ما هو أشدّ فظاظة تجاه كرامة المواطن، من جهة أولى؛ وأكثر خفّة، واستهتاراً، بحاضر سورية العربي والإقليمي والدولي، من جهة ثانية. أعود، هنا، إلى مثال أوّل يتيح المقارنة بين سياسات الأب والابن، وأعني قرار رئيس مجلس الوزراء الذي قضى بصرف العشرات من الخدمة في الدولة، بسبب توقيعهم على بيانات سياسية معارضة، أو داعية إلى الإصلاح.
هنا وجه المقارنة: خلال سبعينيات القرن الماضي، في السنوات الأولى من عهد 'الحركة التصحيحية'، أصدرت وزارتا التربية والتعليم العالي (بتوجيهات مباشرة من القيادة القطرية لحزب البعث) سلسلة قرارات قضت بإبعاد أعداد كبيرة من المدرّسين الشيوعيين، وكذلك المدرّسين ذوي الخلفيات الإسلامية، من قطاع التعليم إلى وزارات أخرى لا صلة لها البتة بالتعليم. وبناء على تلك القرارات، توفّر مدرّس لغة إنكليزية يعمل مراقباً للتموين، أو مدرّس رياضيات يعمل في وزارة الأوقاف، أو مدرّس تاريخ يعمل في وزارة الكهرباء!
وبهذا المعنى فإنّ السلطة كانت تسعى إلى درء الأخطار السياسية والتربوية والفكرية التي يمكن أن تنجم عن بقائهم في قاعة التدريس، وليس إلى عقابهم على انتماءاتهم السياسية أو أفكارهم، وإلا لما اعتورها أيّ حياء في إلقاء القبض عليهم. لكنّ الطرد من الوظيفة، بسبب التوقيع على بيان وليس الإنتماء إلى حزب معارض بالضرورة، أثبت قناعة الأسد الابن بأنّ العقاب على الأفكار ينبغي أن لا يقتصر على كمّ الأفواه والمنع من السفر والإعتقال والإحالة إلى محاكمات كاريكاتورية قرقوشية؛ بل يجب أن يشمل قطع الأرزاق أيضاً، وربما أوّلاً. نحن البلد، ونحن الدولة، ومَن لا ينضوي في صفّنا، سياسياً وعقائدياً وأمنياً أيضاً، فلا يهتف 'الله! سورية! بشار وبسّ!' (لاحظوا أنّ الهتاف هذا يستبدل بشار بالحرية، مقابل الهتاف الشعبي الشائع اليوم: 'الله! سورية! حرّية وبسّ!')... فليس له مكان في دولة(نا)، ولا رزق له في 'وزارات(نا) ومؤسسات(نا)!
لكنّ الأسد الابن، حين أعطى أوامره لأجهزة الأمن باستخدام الرصاص الحيّ ضدّ المتظاهرين في درعا، واختار وحدات خاصة في الجيش لاقتحام مسجد المدينة العريق وسفك المزيد من الدماء في باحته وداخل جدرانه، كان قد عبر نهر الروبيكون، الدامي تماماً كما يتوجب القول، ليصبح الدم هو الفاصل بينه وبين الشعب، وهو الفيصل الصريح والأقصى. ولقد دقّ، بنفسه، بمطارق الإستبداد والفساد إياها، ثلاثة مسامير كبرى في نعش نظامه الآيل إلى سقوط، بَعُدت اللحظة أم دنت، وتعددت طرائق الخداع والتضليل والكذب أم اقتصرت دفاعات السلطة على إراقة الدماء هنا وهناك.
المسمار الأوّل هو الإطمئنان، الناجم بالضرورة عن اختلاطات الطيش والغطرسة والنرجسية، إلى أنّ هذا الحراك الشعبي، في دمشق وبانياس ودير الزور وحمص والقنيطرة، قبل درعا، لا يمثّل إلا فئة من 'المندسين' و'العملاء'، لأنّ الشعب بأسره يحبّ الرئيس، بدلالة هذا الشعار الذي تغصّ به شوارع سورية: 'منحبّك'!
وكان أمراً تلقائياً، أو بالأحرى غريزياً، أن يفضي ذلك الإطمئنان إلى يقين الدكتاتور، وناصحيه من شركاء النهب والحكم العائلي، بأنّ علاج هذه الفرقة الضالة يحتاج إلى خيار الأرض المحروقة، والبتر المبكر، على الفور، دون أي ترجيح حتى لاحتمال العلاج بالكيّ. ولقد كان مذهلاً، حتى لأصدقاء النظام الإقليميين (رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، على سبيل المثال)، أن يلجأ النظام إلى الذخيرة الحية في مواجهة أوّل تظاهرة سلمية نوعية، وأن يسقط أربعة شهداء في ساعات قليلة.
المسمار الثاني هو الإستهانة بالمغزى الرمزي، قبل ذاك الديني، لاقتحام مسجد أوى إليه جرحى ومواطنون لا يحملون حتى الحجارة، وليس لهم أن يتسببوا بأي أذى للمفارز الأمنية والوحدات العسكرية التي تطوّق المسجد.
ولكي تًضاف الإهانة إلى الجرح، وتُخلي المأساةُ مشهدها الدامي لصالح مهزلة ركيكة سخيفة مكرورة مستهلكة، دخلت عدسات إعلام السلطة إلى المسجد لكي 'تضبط' الأموال والأسلحة المخزّنة هناك، والتي وصلت إلى 'المندسين' من جهات خارجية. كأنّ الأسد لم يتعلّم أبسط الدروس من اتهامات مماثلة، ساقتها سلطات الإستبداد العربية في تونس ومصر واليمن وليبيا، ولم تعد أضحوكة المواطن العربي، والبشر في مشارق الأرض ومغاربها، فحسب؛ بل صارت مبعث اشمئزاز وقرف.
أو، في مقارنة أخرى، كأنّ الابن نسي حرص أبيه ـ وكان أشدّ بطشاً واستشراساً في قمع الاحتجاج، أياً كانت طبيعته أو نطاقاته ـ على تفادي اقتحام المساجد، حتى حين أعطى الأوامر بقصفها، خالية كانت أم على رؤوس اللاجئين إليها من بني البشر. صحيح أنّ رهط المنافقين من المشائخ، المطبّلين المزمّرين للنظام، التزموا الصمت المطبق؛ ومثلهم فعل رجال دين عرب ذوو حظوة ومكانة، مثل الشيخ القرضاوي والسيد حسن نصر الله؛ إلا أنّ اقتحام مسجد آمن مسالم يتجاوز بكثير حرق الأصابع جرّاء لعب الهواة بالنار. هذا، أغلب الظنّ، ما أدركه الأب الأريب، وفات على الابن 'الممانِع' و'المقاوِم' أن يتحسب له.
المسمار الثالث هو احتقار الذاكرة الشعبية السورية، عن طريق اقتراح حلول تنطلق من افتراض الدرجة صفر في الذكاء الأخلاقي للمواطن السوري، أو الدرجة صفر في كرامته الوطنية، كما حين اختار الأسد أن يكون وسيطه في الحوار مع أهل درعا هو اللواء رستم غزالي، أحد كبار أدوات الفساد والإستبداد، دون سواه! الأرجح أنّ منطق اعتماد غزالي انطلق من اعتبارات مناطقية صرفة، كأن يكون اللواء من أبناء المحافظة، وأن تكون له بالتالي 'موانة' على أهلها وشهدائها، أياً كانت موبقات غزالي في قمع أبناء محافظته أنفسهم، لكي لا يتحدّث المرء عن 'أمجاد' اللواء في عنجر وسائر لبنان.
وفي كلّ حال، بينما كان 'الوسيط' يسعى إلى ممارسة مهاراته في التفاوض، كما اكتسبها من سيّده السابق اللواء غازي كنعان، أو من مراقبة ألاعيب أصدقائه الساسة اللبنانيين الأفاقين، كانت وحدات عسكرية خاصة قد تلقّت لتوّها الأوامر بحصار المدينة، وقطع الكهرباء عنها، وكذلك اتصالات الهاتف الجوّال والإنترنت، تمهيداً لارتكاب المجزرة في المسجد العمري، بعد ساعات قلائل. في السياق ذاته، بدا الأسد مستعداً لتقديم كبش فداء إلى مواطني درعا، تمثّل في مرسوم إقالة المحافظ فيصل كلثوم، متناسياً أنّ أهالي المحافظة يدركون جيداً أنّ الأخير لم يكن سوى بيدق صغير في شطرنج بيت السلطة، ومسنّن أصغر في آلة الفساد الجهنمية، ومن الإهانة اعتبار إقالته بلسماً لجراح المحافظة ولأمهات الشهداء الثكالى.
هذه، غنيّ عن القول، مسامير أولى سبقت سواها، ولسوف تعقبها أخرى، ما دامت مطارق النظام تشتغل دون كلل لإدامة حال عالقة، مستعصية في الفساد وعصية على الإصلاح، فصار دوامها من المحال، وأخذت ملامح انقلابها ترتسم أوضح، حتى إذا بدت أبطأ، ولاحت تباشير أثمانها أبهظ وأغلى. ومجزرة الجامع العمري، بين علائم نبيلة كثيرة أخرى، دشّنت اقتراب الساعة، وانتصار الشعب، وبزوغ فجر سورية الحرّة الديمقراطية الكريمة.