أمجد ناصر

يتأخر الدم، بعض الشيء، في مواجهات المحتجين العرب مع انظمتهم الا في سورية. انه اول شيء يهرق. من أول طلعة احتجاج في مدينة درعا السورية المهملة، المقموعة، يسقط أربعة أو خمسة شهداء. يد النظام السوري على الزناد. فليس في سورية، على ما يبدو، خراطيم مياه، عبوات غاز مسيلة للدموع، بل بنادق ورصاص.
انه الرصاص يا من تحاولون رفع الصوت في وجه الأسد الابن. فعل ذلك الأسد الأب بطلاقة عندما اهتزَّ عرشه الانقلابي. قذائف ومدافع وطائرات عمودية فوق حماة وحلب وسجن تدمر، ليعيد شعبه 'العاصي' الى حظيرة الطاعة. ونجح في فرض الصمت الطويل على السوريين، ما مكنَّه من توريث ابنه، طبيب العيون، عرشه المرصع بعظام معارضيه.
أراد الأسد الصغير ان يكون مختلفاً عن الأسد الكبير. أن يحكم هو. لكنَّ الأسد الكبير واصل حكم سورية، بمتاهة أمنه وأخطبوط مخابراته، من القبر.
في البلد العربي الذي حوّل الجمهورية، لأول مرة، الى ملكية مطلقة، مستبدة، لا مكان للكلام. الصمت هو اللغة التي على السوريين ان يتعلموا ابجديتها الخرساء، فما ان نطق السوريون في أول محاولة للكلام، جاءهم الرصاص.
كانت هذه الوصفة المجرَّبة ناجعة في ما مضى. ولكن كم تبدو قديمة، بالية، هذه الأيام. إنها وصفة زمنٍ يرقى الى ما قبل الصفعة التي وجهتها شرطية تونسية الى وجه البوعزيزي فرد عليها بإضرام النار في نفسه. بالنار حرر البوعزيزي جسده من سجن الحاجة والمذلة فخلقت نار الاحتجاج تلك زمناً عربياً جديداً.
شيء يشبه فداء السيد المسيح للخاطئين، الخائفين، المذلين والمهانين.
يعرف الأسد الابن ان وصفة الأسد الكبير المجرَّبة قديمة وبالية ولكنه، على ما يبدو، لا يملك غيرها. لم يوطد نفسه للقاء يوم ينطق فيه السوريون ويخرجون من وراء أسوار الصمت الكبير الى رحاب الكلام.
لقد رأى الأسد الصغير، ما يجري في الفضاء العربي الملتهب ولكنه لم يفعل شيئاً ليردَّ الى السوريين الذين حرموا من أبسط حقوق البشر المتحضّرين بعضاً من حقوقهم المسلوبة. قال كلاماً مسفسطاً عن الاصلاح ولكنه لم يستطع، حسب ظني، أن ينتزع تنازلاً واحداً من العصابة الأمنية التي تحكم بلداً كبيراً وعظيماً مثل سورية. انه أضعف من ذلك الجبروت الأمني الذي تركه الأب وراءه باسم 'الصمود' و'التصدي' وصار يسمى اليوم 'الممانعة'. لا يفهم أحد كيف يمكن لبلد 'مواجهة' أن 'يصمد' و'يتصدى' بالأمن والمخابرات وحدهما فيما الشعب الذي ينبغي أن 'يصمد' و'يتصدى' يرسف في الأغلال. لا احد يفهم ولكن ذلك ليس مهماً، ففي سورية الأسد تجتمع المتناقضات وتتعايش: صمود وتصد وممانعة من جهة وعسف وقهر وتغوّل أمني من جهة أخرى، اشتراكية وجوع وغلاء، وحزب قومي وجبهة وطنية عريضة من ناحية وعائلة حاكمة من ناحية ثانية. لم يحدث هذا في بلد عربي من قبل. كانت هناك ملامح مصرية وتونسية وليبية ويمنية تستلهم النموذج السوري 'الناجح' لكن هبّة الناس في ربيع حريتهم المتفتح بألف زهرة وأد تلك المحاولات في مهدها فصار 'النموذج السوري' عارياً، منفرداً لا سند له في الواقع العربي. انه بالضبط، النموذج الذي تريق الشعوب العربية دماءها كي لا يسود.
يا لهذا النموذج كم هو، الآن، وحيدٌ وعارٍ لا تستر عورته ورقة توت واحدة.
يعرف السوريون، أكثر من سواهم، أن لا مثيل لنظام حكمهم في العالم العربي، بل ربما في العالم الثالث كله، وأن كل كلام أزلام النظام وأبواقه، في الداخل والخارج، عن استهدافه من قبل امريكا واسرائيل ليس سوى ذر للرماد في العيون، ويعرفون بأسه ولكنهم مصرون، كما ما تبدي لنا وقائع درعا، على دفع ثمن الحرية مهما كان غالياً.
كثير على السوريين أنَّ يكونوا بلا حرية، بلا ممانعة حقيقية، بلا حياة كريمة.
مطلب الحرية حقيقي في سورية.
مطلب العيش الكريم حقيقي.
أما 'الممانعة' الفعلية فلا أشكُّ في أنها مطلب سوري حقيقي.. أيضاً.