عدنان كامل صلاح

عدم دخول بعض المجتمعات العربية في تجارب ديمقراطية حقيقية في السابق، وعدم إتاحة حكوماتها الفرصة لقيام أحزاب سياسية، أو هيئات مجتمع مدني يتم اختيار إداراتها عبر صناديق الاقتراع.. يصيب الشعوب بالأميّة السياسية، فيما يتعلق بالانتخابات، وأسلوب التعامل معها، بما في ذلك الحملات الانتخابية وما شابهها، وإقامة الأحزاب والهيئات، وتنظيم نشاطاتها.. لذا نجد (الثائرين) في مصر لا يرون مفرًّا من إعادة كتابة نظام الأحزاب، وطريقة عملها من نقطة الصفر.
والعمل السياسي هو ثقافة لا بد من فهمها، والدخول في تجارب فيها للوصول إلى نموذج يناسب المجتمع الذي يدور فيه هذا العمل، وتقع المسؤولية في هذا الأمر على الحكومات، الذين ينتظر منها تثقيف مواطنيها في إدارة الأمور بالشكل الأفضل، والمشاركة مع بعضهم البعض في تحقيق ذلك، والقبول باختلاف الرأي والوسيلة، في إطار عام يحقق الرخاء والاستقرار، والسلم الاجتماعي.. ولوحظ في مصر مثلاً، حيث هي النموذج العربي الذي نسترشد به هنا، أن أجهزة الدولة في السابق سعت إلى إضعاف كل حزب معارض، وحدّت من قدراته بشكل جعل مجموع الأحزاب المعارضة بدون أي قيمة تُذكر، بل وقامت الأجهزة الأمنية بإفساد العملية الانتخابية عبر تزوير صناديق الاقتراع بشكل يؤدي إلى إعطاء الحزب الحاكم أغلبية ساحقة، وهذا التصرف ساعد على إهمال الحزب الحاكم نفسه، والتراخي عن بناء أدواته الحزبية بحيث انكشف بشكل مريع خلال ثورة الشباب الأخيرة، وعجز عن تحريك القاعدة الشعبية التي كان يدّعي أنه يحظى بها.
النتيجة الواضحة اليوم هي أنه بينما جرى إضعاف الأحزاب المعارضة، فإن النظام المصري عجز عن الحد من حركة الإخوان المسلمين، بالرغم عن كل ما سعى إلى ممارسته من إجراءات أمنية ضدها.. فالحركة استخدمت المساجد، والهيئات الخيرية الدينية بمختلف المحافظات المصرية، وتمكّنت خلال الانتخابات البرلمانية، وفي ظل ظروف القهر التي مورست ضدها، والتلاعب الذي جرى لصناديق الاقتراع إلى إيصال أعداد لا يُستهان بها من المنتسبين إليها إلى قاعة البرلمان تحت راية (مستقلين).. وتكرر الأمر في كافة المجتمعات العربية التي سلكت سبيل الانتخابات، وصناديق الاقتراع بنفس الشكل غير السليم، حيث نجد الحركات الليبرالية عاجزة عن التحرك مقابل الحركات الدينية العقائدية المتطرفة والمعتدلة التي تستخدم الشعارات الدينية غطاء لتحركها أكان سياسيًّا أو غير سياسي.
لذا نجد العمل السياسي العربي الجديد في مصر وتونس، حيث بدأ الإعداد لتحوّل في أسلوب الحكم بعد إسقاط النظامين السابقين فيهما، يدخل اليوم منطقة جديدة من العمل، حيث تبدو كفة الجماعات الدينية، وأبرزها الإخوان المسلمون، هي الراجحة، إذ إنهم تمتعوا بميزة في الحركة والتنظيم لم تتوفر للمجموعات الأخرى، والتي لم تجعل من الشعارات الدينية وسيلة لعملها.. ممّا يقودنا إلى التساؤل عمّا إذا كانت جماعة الإخوان المسلمين، وما ماثلها من حركات هي الوجه القادم لحكم مصر وتونس، وهذا تساؤل في محله، ويضع المجتمع في إشكالية جديدة، إذ إن تعجيل انتخاب البرلمان القادم تقود إلى نجاح الطرف الأكثر تنظيمًا، وفشل الأطراف الأخرى التي بادرت إلى، وساهمت في إسقاط النظام السابق بما فيهم الشباب، بينما سيؤدي التأجيل إلى قلق سياسي واستمرار حالة اللااستقرار القائمة.. فهل يمكن الوصول إلى حلول تكون أكثر عدالة بالنسبة للأحزاب السياسية وغيرها من هيئات المجتمع المدني، بحيث تتمكن من إعادة تنظيم نفسها في ظل مناخ سياسي جديد، يتيح لها ذلك، ويجعل الفرص المتاحة أمام الناخب أكثر عدالة؟!.
الغرب، وعلى رأسه أمريكا، يسعى لأن يكون عرّابًا للنظام (الديمقراطي) العربي الجديد.. إلاّ أن دور (العرّاب) هذا مشكوك في سلامته، فهناك حديث في أوروبا وأمريكا عن أن الإسلام لا يتيح قيام الديمقراطية، وفي نفس الوقت فإن الغرب يسعى لتشجيع الحركات الإسلامية على أن تلعب دورًا مهمًّا في النشاط السياسي العربي، وهو أمر من الواضح أنه أسعد الحزب الإسلامي المعتدل في تركيا، حيث نرى السيد رجب طيب أردوغان، رئيس الوزراء، سريع التصريحات حول (ثورات) الشباب العربي، ودعوته الحكام العرب الاستجابة لها، وآخرها تصريحه بأنه تحدث إلى الرئيس السوري بشار الأسد، وطالبه الاستجابة للمطالب الشعبية.
لن يجدي نفعًا الإصرار على مواجهة الموجة الحالية من الانتفاضات العربية بعدم المبالاة، وترك (العرّاب) الأمريكي يتدخل علنًا أو سرًّا لتوجيه عدم الرضا إلى نواحٍ لن تؤدي إلاّ إلى تحقيق مصالحه، والتي قد لا تكون بالضرورة لمصلحة المجتمعات العربية.. لذا فإن المطلوب أن تسعى الحكومات العربية إلى إعداد شعوبها للانتقال إلى مرحلة متقدمة من عمرها السياسي والاجتماعي، وفتح القنوات المناسبة للاستجابة إلى تطلعات الشباب، وتمكين المجتمع من المشاركة في بناء قدراته عبر سبل مشروعة للتعبير، والعمل، والحوار.