أنقرة - حسني محلي


كثفت الدبلوماسية التركية جهودها في الأيام الأخيرة على جبهة جديدة في الشرق الأوسط، وذلك على ضوء الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت في جارتها سوريا التي تشاطرها منطقة حدودية يبلغ طولها 800 كيلومتر.

تبلورت هذه الجهود من خلال اتصالات يومية مباشرة بين رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان والرئيس السوري بشار الأسد، إضافة الى متابعة وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو التواصل مع نظيره السوري وليد المعلم، لتقديم مساعدة تركيا في عملية الإصلاح نحو نظام ديموقراطي.
كما أوفدت أنقرة رئيس الاستخبارات الوطنية التركية هاكان فيدان في 29 مارس الى دمشق، للتعبير عن مخاوف حكومته من انتشار الاضطرابات الاجتماعية من درعا (جنوب غرب سوريا)، إلى المدن الكبرى مثل اللاذقية، المطلة على البحر المتوسط والأقرب الى الحدود التركية.
وترجع هذه الجهود المكثفة الى مدى حساسية المشاكل السورية الداخلية بالنسبة لتركيا. فمصدر القلق الرئيسي لأنقرة يكمن في المواطنين الأكراد في سوريا، البالغ عددهم 1.4 مليون نسمة والذين، في حالة انهيار نظام الأسد، قد يتطلعون الى التنسيق مع نحو 15 مليون كردي تركي، وسبعة ملايين كردي إيراني، وستة ملايين كردي عراقي، بغية المطالبة بدولة كردية مستقلة.
وتحسبا لهذا الاحتمال، ضمن أمور مهمة أخرى، شكلت أنقرة ودمشق مجلس تعاون استراتيجي رفيع المستوى في عام 2009. وأجرى البلدان أول مناورات عسكرية مشتركة في أبريل 2010، وهي الهواجس نفسها التي تقف وراء منح الأسد الجنسية السورية لاكراد منطقة الحسكة (شمال شرق).

مواقف مفاجئة
من هنا، يمكن فهم موقف أنقرة laquo;المستنكرraquo; من رد فعل أجهزة النظام في سوريا مع التظاهرات التي خرجت في درعا وامتدت الى مدن سورية عديدة. فقد خرج أردوغان بتصريحات مثيرة وصف فيها خطاب الأسد في مجلس الشعب بأنه laquo;غير كاف ولم يلبّ. طموحات الشعب السوريraquo;، معلنا أنه سبق له ان تحدث مع الرئيس السوري أكثر من مرة وطلب منه الاستعجال في عملية الإصلاح.
وجاءت المفاجأة الأكبر عندما سمحت السلطات التركية لزعيم الإخوان المسلمين في سوريا، رياض الشقفة، بعقد مؤتمر صحفي في اسطنبول (الأسبوع الماضي) ليناشد الشعب السوري التمرد على النظام في سوريا، ما أغضب القيادة السورية، بل وحتى الشارع السوري، الذي كان ينظر الى تركيا على أنها laquo;الصديق الاستراتيجي الموثوق به بشكل مطلقraquo;. وقد أبلغ الوزير المعلم نظيره التركي تفاصيل الغضب السوري، وسعت أنقرة لإزالته من خلال بيان رسمي لوزارة الخارجية أعلنت من خلاله الحكومة التركية عن تأييدها لمساعي الرئيس الأسد في الإصلاح، وقالت إنها معنية بالأمن والاستقرار في سوريا.
فنظرا للقضايا الحساسة المشتركة بين البلدين بحكم الحدود (وأبرزها القضية الكردية) وتمسكا بالمصالح الاستراتيجية والاقتصادية، لا تستطيع أنقرة إغضاب دمشق، كما فعلت مع الزعيم الليبي معمر القذافي. فالحكومة التركية أيدت قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1973، وذهبت الى حد إعلان استعدادها للمشاركة في قوات التحالف وقوات حلف الأطلسي في مهمة تطبيق القرار، من دون أن تأبه كثيرا لردود فعل طرابلس الغرب، ولا لغضب المعارضة الليبية التي ساءها تأييد أنقرة لقرار عدم تسليح الثوار.

القضية الكردية
التناقض في الموقف التركي تجاه كل من ليبيا وسوريا لم يمنع أنقرة من التحرك على صعيد أحداث منطقة الخليج. فقد كان لرئيس الوزراء دور مهم وبارز في تطور الأحداث في البحرين، من خلال الحديث مباشرة الى كل من السعودية والإمارات وقطر وإيران، بالإضافة الى البحرين، باعتبار أن هذه الدول أطراف أساسية في القضية. كما كان لأردوغان نشاط مماثل في ما يخص الوضع في اليمن.
فأنقرة ترى في حالة عدم الاستقرار في المنطقة خطرا مباشرا يهدد مجمل مشاريعها الإقليمية التي تهدف لتحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة، مما سيضمن المزيد من المصالح الاقتصادية لها. وهو ما توليه أنقرة أهمية بالغة في علاقاتها مع العراق رغم التناقضات في حسابات الطرفين.
والجدير ذكره هنا، أن تركيا واجهت منذ عام 1978 سلسلة من النزاعات المسلحة مع حزب العمال الكردستاني، تسببت بمقتل ما لا يقل عن 40 ألف شخص واصابة ضعف هذا العدد بجروح من الطرفين.

الاستقرار لحفظ المصالح
وينظر الرأي العام التركي بحذر وحساسية تجاه مسألة الحكم الذاتي الكردي، شأنه في ذلك شأن المواطنين السوريين والإيرانيين، حيث تضع هذه الدول سلامتها الإقليمية على رأس أولوياتها القومية منذ استقلالها عن الغرب.
لذا، لم يتردد أردوغان في زيارة إقليم كردستان العراقن رغم حقيقة أن عناصر العمال الكردستاني موجودون في شمال البلاد بضوء أخضر من القيادات الكردية العراقية، التي تؤكد حقها التاريخي والجغرافي في مدينة كركوك الغنية بالنفط، والتي ترى فيها أنقرة مدينة عراقية ذات طابع تركماني. فتركيا لن تضحي بمصالحها الاقتصادية الكبيرة في شمال العراق، حيث يزيد حجم صادراتها والمشاريع التي تنفذها شركاتها هناك على 5 مليارات دولار، في الوقت الذي تستخرج فيه شركة laquo;تركياraquo; ما يزيد على 120 ألف برميل يوميا من البترول الذي تبين الأرقام أن احتياطيه من البترول والغاز سيغطي كل احتياجات تركيا للمستقبل المتوسط والبعيد. وتدفع كل هذه التطورات الحكومة والأوساط السياسية التركية لإعادة ترتيب أهداف سياستها الخارجية، بما يضمن استمرارية مشروع laquo;الأمن والاستقرار يحققان التفوق الاقتصادي والسياسيraquo;.
ويبدو أن هذا الهدف لم يعد الوحيد الذي يحدد إطار السياسة الخارجية التي لم تتجاهل بعد تأكيد ضرورة الإصلاح السياسي والديموقراطي، إلا أنها لم تعد ترى في ذلك شرطا أساسيا وضروريا بمفرده، طالما أن عملية التغيير، بل وحتى التفكير بالتغيير، بات يشكل خطرا على المخططات والمشاريع والأحلام التركية في المنطقة.
فالوضع في ليبيا واحتمالات استمراره سينعكس بشكل سلبي جدا على المشاريع التركية الكبيرة هناك. كما أن زعزعة الأمن والاستقرار في سوريا لن ينعكس سلبا على الحسابات الاقتصادية والتجارية التركية الكبيرة في المنطقة فحسب، بل سينسف المشروع التركي الإقليمي بأكمله، باعتبار أن الحرب الأهلية المحتملة في سوريا ستعني تقسيم هذا البلد، وهو ما سيعني الكثير من المشاكل المباشرة لتركيا. فمثل هذا الاحتمال سيعني تشكيل خطر مباشر على تركيا، عبر احتمالات تمرد المنطقة الكردية شمال شرق سوريا المتاخمة لجنوب شرق تركيا وشمال العراق التي يعيش فيها الأكراد.

منطقة التجارة الحرة
كما أن انفجار الوضع الأمني واحتمالات الحرب الأهلية في سوريا سينسفان المشروع التركي الخاص بإقامة منطقة للتجارة الحرة بين تركيا وكل من سوريا والأردن ولبنان، التي ألغت أنقرة معها تأشيرات الدخول نهاية عام 2009. فيما ستحمل تطورات اليمن أو البحرين في طياتها الكثير من المعاني الاستراتيجية للحسابات التركية الاقتصادية والاستراتيجية لما لأنقرة من مصالح اقتصادية مباشرة مع جميع دول الخليج التي ترى في تركيا عنصرا توازنيا لمواجهة أي حسابات إيرانية في المنطقة.
ولتضع كل هذه التطورات في نهاية المطاف حكومة أردوغان أمام تحديات جدية وصعبة جدا طالما انها حملت وستحمل معها الكثير من المفاجآت السريعة والمتناقضة التي يبدو أن أنقرة لم تكن تتوقعها وهي الأكثر تأثرا بشكل مباشر أو غير مباشر، بعد أن أصبحت عنصرا مهما وأساسيا في مجمل سياسات المنطقة.