Luis Navarro - European Voice


دفع الانقسام العلني بين فرنسا وألمانيا- laquo;محرك أوروباraquo;- بالكثيرين إلى نعي السياسة الخارجية والأمنية المشتركة في الاتحاد الأوروبي، وبما أن باريس ولندن أدتا دور القيادة السياسية والعسكرية، انتشرت توقعات مفادها أن تفاهماً فرنسياً بريطانياً قد يكون المحرك الجديد للمقاربة الجيوسياسية في أوروبا.

يوضح الجدل المحتدم راهناً حول التدخل العسكري في ليبيا معطيات جيوسياسية كثيرة داخل أوروبا وخارجها، تماماً كما حصل عند غزو العراق في عام 2003.

فقد كان امتناع ألمانيا عن التصويت في مجلس الأمن على قرار يأذن بالتحرك العسكري في ليبيا الحدث الأبرز في هذا المجال، وقد دفع الانقسام العلني بين فرنسا وألمانيا- 'محرك أوروبا'- بالكثيرين إلى نعي السياسة الخارجية والأمنية المشتركة في الاتحاد الأوروبي، وبما أن باريس ولندن أدتا دور القيادة السياسية والعسكرية، انتشرت توقعات مفادها أن تفاهماً فرنسياً بريطانياً قد يكون المحرك الجديد للمقاربة الجيوسياسية في أوروبا.

يعتبر البعض أن 'ضعف' ألمانيا وسلوكها الانطوائي تجاه قرار استعمال القوة هما السبب في الانقسام الأوروبي بشأن ليبيا، لكن السلوك الألماني يشير فعلياً إلى ثقة بالنفس، لا إلى تحفّظ وضعف في المواقف. يجب الحكم على الموقف الألماني عبر التنبه إلى الاستراتيجية الألمانية العامة بدل التركيز حصراً على موقفها من استعمال الأداة العسكرية (في نهاية المطاف، تُعتبر هذه الأداة تكتيكية).

تمثل ألمانيا الموحدة تحدياً في وجه الأوروبيين الآخرين نظراً إلى موقعها وقوتها الاقتصادية. نتيجةً لذلك، كان ضبط النفس شرطاً مسبقاً لضمان نجاح ألمانيا منذ توحيدها في عام 1871. في المقابل، أدى فشل ألمانيا في ضبط نفسها، مرتين خلال القرن العشرين، إلى الانغماس في الحرب وإلى عقود من الضعف الألماني. منذ نهاية الحرب الباردة، دخلت سياسة ضبط النفس في إطار خطاب 'القوة الدبلوماسية'. تدرك ألمانيا جيداً أهمية التشدد في السياسة الدولية، ولكنها تعتبر أن التزام حلفائها بتدعيم الاستقرار الأوروبي وتعزيز نظام التجارة الحرة في العالم يعفيها من موجبات استعمال القوة؛ لذا تبقى 'القوة الدبلوماسية' أكثر أهمية لتدعيم الاستقرار الأوروبي، وتُعتبر ألمانيا محور تلك القوة، وقد ساهمت حيادية ألمانيا في تعزيز مكانتها كقوة تجارية عظمى... باختصار، ثمة حسابات استراتيجية كبرى تحرك سياسة ضبط النفس، وليس العكس.

لقد حمل التصدي للولايات المتحدة بسبب حرب العراق في عام 2003 معنى مهماً للغاية، لكن في ذلك الحين، كانت ألمانيا تحظى بدعم فرنسا، وكان يمكن أن تبرر موقفها بغياب الغطاء السياسي والقانوني من مجلس الأمن لتنفيذ عملية الغزو. غير أن الوقوف في وجه الولايات المتحدة وفرنسا معاً يحمل اليوم معنىً أكبر، وما يزيد من أهمية هذه الخطوة هو إقدام ألمانيا الآن على استعمال الأدوات الاقتصادية بكل ثقة من أجل توسيع نفوذها في أوروبا.

استراتيجية كبرى

مع تنامي ثقة ألمانيا ونفوذها، سنشهد على الأرجح تحولاً محورياً في الاستراتيجية الفرنسية الكبرى، ففرنسا لن تتخلى حتماً عن شراكتها مع ألمانيا خدمةً لشراكتها مع بريطانيا. وستسعى باريس إلى الحفاظ على الشراكتين معاً، من أجل ضمان مكانة متقدمة لها في عالم السياسة الأوروبية، وتتمتع فرنسا بعلاقة سياسية وعسكرية قوية مع بريطانيا، وعلاقة سياسية واقتصادية مميزة مع ألمانيا، وعلاقة متينة مع روسيا. في هذه اللعبة الإقليمية، تتمتع فرنسا بقوة تُحسَد عليها، وستستفيد بريطانيا من تحسين علاقتها مع ألمانيا خوفاً من أن تتراجع مكانتها.

سيتضرر الاتحاد الأوروبي بدوره في حال التخلي عن أحد الأطراف الثلاثة، فعلى المستويين العسكري والعالمي، تُعتبر قوة الشراكة الفرنسية والبريطانية عاملاً مهماً بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي، لكن التفكير بنشوء أوروبا جديدة تكون مبنية على 'محرك فرنسي بريطاني'، إذ تحدد باريس ولندن الاتجاه الاستراتيجي لأوروبا، هو أمر غير مستحبّ وغير واقعي في آن. فقد يدفع هذا الوضع بألمانيا (وبلدان أخرى) إلى تقوية تحالفاتها مع الدول التي لا تنتمي إلى الاتحاد الأوروبي، كذلك، تُعتبر تلك المقاربة غير واقعية لأن فرنسا لاتزال تعتبر شراكتها الخاصة (والحصرية) مع ألمانيا مصدر نفوذ أساسي لها في أوروبا.

يحتاج الاتحاد الأوروبي إلى علاقة ثلاثية قوية بين فرنسا وبريطانيا وألمانيا، وسيؤدي أي وضع مخالف لذلك إلى جهود معقدة ستبذلها الدول الأعضاء من أجل فرض توازن معين داخل أوروبا واتباع سياسات خارجية مختلفة تماماً، ما قد يؤدي إلى تهديد الاستقرار في أوروبا والتأثير سلباً في طموحات الأوروبيين بفرض قوتهم على العالم.

* مسؤول في معهد الدراسات الأوروبية في جامعة فريج، بروكسل.