ناجي صادق شراب

سيبقى ما حدث في مصر تونس وعواصم عربية أخرى تشهد الحراك السياسي نفسه، من هبات ثورية جماهيرية كبيرة أسقطت حتى هذه اللحظة نظم حكم اتسمت بالتسلط واللاديمقراطية في ممارسة الحكم، له تداعياته السياسية البعيدة المدى على المستوى العربي، وقد يكون من السابق لأوانه الحديث عن هذه التداعيات السياسية لأن الحدث مازال قائماً ومتفاعلاً، ولم تتبلور نتيجته وتوجهاته المستقبلية، لكن في الوقت نفسه، وأياً كانت النتيجة، فما حدث يثير تساؤلاً مهماً ومشروعاً حول مستقبل الدولة القطرية العربية القائمة . ولعل أول هدف لهذه الثورات هو استهداف الدولة القطرية، وإعادة النظر في مكوناتها وعلاقاتها المجتمعية . وفي ضوء ذلك يمكن استقراء عدة خيارات ممكنة، وكل واحد منها تحكمه محددات داخلية وإقليمية ودولية .

خيار فشل نموذج الدولة القطرية على الرغم من استمرارها، والحقيقة التي لا ترقى إلى الشك أن الذي حدث في مصر وتونس وغيرهما من الدول العربية، قد أكد وأثبت فشل الدولة القطرية السائدة على المستوى العربي، وقد كشف عورات هذه الدولة، وهشاشتها وضعفها، فمن ناحية كشف عن هشاشة هذه الدولة وتضخم مؤسسساتها الأمنية والعسكرية والإدارية والبيروقراطية، وأن وظيفة الأمن والعسكر هي لحفظ النظام القائم، وأن المؤسسة الأقوى والأكثر قدرة على ترجيح وحسم الأمور هي المؤسسة العسكرية، مما يعني تبعية علاقة المؤسسة السياسية المدنية لحساب العسكر، وهو الأمر الذي يكون على حساب الديمقراطية والإصلاح السياسي .

وأكدت الثورة في الوقت ذاته ازدواجية التبعية للخارج، كأحد المداخل لدعم واستمرار الدولة القطرية بنظام حكمها القمعي، وفي الوقت ذاته تخلي الخارج عن هذا النموذج إذا فشل في حماية نفسه أمام ثورة جماهيره الغاضبة . وأثبتت الأحداث ضعف شرعية الدولة القطرية لدرجة سقوطها مع أول تحرك جماهيري هادف وقوي .

وهناك خيار التحول إلى دول العسكر، وهذا أحد أكثر الخيارات احتمالاً وقوة . ويتوقف على مدى نجاح الثورة الشعبية في تحقيق أهدافها بشكل سريع، وتحولها إلى برنامج عمل سياسي، لكن استقراء سجل الثورات الشعبية في العديد من النماذج في مختلف الدول، بما فيها الدول المتقدمة سياسياً، أثبت أن العديد من الثورات الشعبية قد تتحول إلى شكل من أشكال الانقلابات العسكرية، وتأكيد حكم العسكر، لأكثر من سبب، أولها حالة الفوضى العارمة التي قد تصاحب الهبة الجماهيرية، وما يصاحبها أيضاً من أعمال عنف ونهب وتدمير للممتلكات العامة، مع ضعف النخب الحاكمة السائدة، وضعف دور القوى المعارضة التي أقصيت عن السلطة لفترة طويلة فأصيبت بحالة من التكلس السياسي، والبعد عن جماهيرها، والخوف من تدخلات خارجية، كل هذا قد يدفع في اتجاه تدخل الجيش، ليضمن الأمن والاستقرار الداخلي والحيلولة دون أي تدخل خارجي، ومن منطلق أن المؤسسة العسكرية هي الأقوى، والأكثر تماسكاً، والأبعد عن مظاهر الفساد والقمع .

إضافة إلى خيار تفكك الدولة القطرية إلى دويلات صغيرة، وهذا الخيار قائم، خصوصاً بالنسبة للدول العربية التي تعاني مظاهر التعددية الطائفية والإثنية والمذهبية، وقد يساعد على هذا الخيار عامل إقليمي يتمثل في دولة إقليمية مجاورة تربطها علاقات عقائدية وطائفية بالطوائف الموجودة في الدول المعنية، والعامل الثاني دور ldquo;إسرائيلrdquo; والقوى الدولية التي لها مصلحة مباشرة، كالولايات المتحدة في عملية التفكيك، كما هو الحال في جنوب السودان، والذي جاء نتيجة ضعف وهشاشة الدولة القطرية وعدم قدرتها على التحول إلى دولة المواطن الواحد . ولعل الفتن الطائفية التي تعانيها العديد من الدول العربية قد تكون مدخلاً لذلك، تحت ذريعة حماية هذه الأقليات الطائفية .

وهناك خيار إصلاح الدولة القطرية وتحولها إلى دولة المواطنة الواحدة، وهذا هو الخيار الحتمي الذي تستوجبه وتحتمه عوامل التغيير التي بدأت تفرض نفسها على إعادة النظر في بنية وتركيبة الدولة القطرية، التي تحولت إلى تحالف غير طبيعي لقوى سياسية غير متناسقة، ولا يحكم بينها إلا المصلحة المشتركة في الحكم، ومن ثم بات البديل للدولة القطرية الضعيفة والهشة، هو الإصلاح، والتأصيل لتأسيس عقد اجتماعي جديد بين الحاكم والمحكوم، وبين الدولة والمجتمع . والتأكيد على أن المواطنة الواحدة هي أساس هذا العقد الجديد، وزيادة دور الدولة المؤسساتية والقانونية، وزيادة درجة المشاركة السياسية، وإعادة النظر في كل الدساتير من خلال جمعيات تأسيسية جديدة تعيد بناء الدولة القطرية على أسس من الديمقراطية الصحيحة .