عاطف الغمري

الرئيس القادم لمصر أياً كان تلزمه حصانة نفسية، تحميه، مما يفعله الكرسي الذي يجلس عليه، ويخلق لديه عقيدة بأنه كرسي السلطان، وأنه من طول الجلوس عليه، يصبح هو حضرة صاحب الدولة . . الذي يحق له أن يخلفه وريثه .

كثير من دراسات علم النفس السياسي، تناولت ظاهرة هذه العقيدة التي تتسلط على الرئيس، من طول البقاء في الحكم، وكانت منها دراسات نُشرت في المطبوعة الفصلية الأمريكية المتخصصة Political Psychology .

إن النقاش الدائر في مصر الآن حول مستقبل الدولة المدنية الحديثة، يتمحور حول مبدأ الديمقراطية الذي حرم منه المصريون بفعل نزعات شديدة من نظام وضع في ذهنه أنه والدولة كيان واحد، وبالتالي أعطى لنفسه ترخيصاً بأن يفعل بها ما يشاء .

تلك كانت ظاهرة منبوذة لابد من أن تتوافر لتلافيها جميع الضمانات في الدستور الجديد المنشود، حتى يستقر في يقين أي رئيس قادم أن الديمقراطية ليست حصانة للبلد فحسب، بل هي وبالدرجة نفسها حصانة وحماية للرئيس من أي زلات قد تنزلق به إليها إغراءات كرسي السلطان، لو أنه استبد بالسلطة وانفرد بالقرار .

فعندما يصبح الرئيس الذي هو محور الحركة والفكر والنشاط، وهو المواطن والوطن، فليست هناك من نتيجة لهذا الوضع، سوى إصابته بأشد درجات التخلف، الذي يصيب عقله، حين يباعد بين نفسه وبين أي صوت صادق، وأي تصورات تجدد فكره، وتوسع آفاق الرؤية أمام عينيه، حتى ولو جاءت من منتقدين له ومختلفين معه، مكتفياً بما يصل إلى أذنيه من مساعديه المفضلين . وخطورة هذا الوضع عليه، أن هؤلاء يستنبطون كلامهم مما سبق أن نطق هو به، أو لاحظوه وقد عشش في تفكيره، فيكون ما يصل منهم إلى سمعه هو نفسه ما جرى على لسانه، عندئذ لا يتجدد تفكيره، ولا يتعلم من دروس، أو يستفيد من تجربة، فيصاب عقله بالضمور .

ومن هذا العقل الضامر تصدر قراراته وتتشكل مواقفه وتتحدد أفعاله وردود أفعاله .

إن رئيساً يتربع على قمة مثل هذا النظام، يكون قد سجن مبكراً داخل حلقة محكمة من الزيف، لا يسمع فيها إلا أصوات النفاق، وحيث تتبارى مؤسسات الدولة التي صنعها هو من برلمان جاء بالتزوير، إلى صحافة مكبلة بالقيود، وإعلام مضلل بينما هو وأدواته ورجاله قد عملوا على إقصاء الكفاءات، وأصحاب الرؤى التي كان يمكن أن تطلق شرارة تطوير لعينيه المغمضتين، مع حرمان الوطن من طاقات إبداعهم، ومن أمانة المشورة التي كان يمكن أن تكون حبل النجاة له قبل أن تقع الواقعة . . وهو ما حدث .

وضع كهذا، لابد أن يكون فاقداً للرؤية السياسية التي تلم بواقع حال الأمة، حتى لو قفزت أمامه من حين لآخر المؤشرات عن سوء حال الشعب، وتدني أوضاعه، فلا تظهر في عينيه سوى نظرة إنكار للواقع، لأن نظرته صادرة من العقل الضامر محكومة بعقيدة أنه والدولة كيان واحد .

وحين كان رجاله يواجهون بتساؤلات أو انتقادات، حول الحال المتدني، فإن ردودهم تستمد فحواها من العقل الضامر للنظام بكاملة، فيلقون باللوم على الشعب، وكأنه مسؤول عما يجري له .

وعلى سبيل المثال عندما كانوا يواجهون باتهام بمسؤوليتهم عن غياب الديمقراطية، تجد منهم من كان يقول إن الشعب المصري نفسه ليست لديه ثقافة الديمقراطية، وهذا منطق لا يرقى إلى مستوى من يفترض أنه يعمل بالسياسة، ومكلف بمسؤولية عامة في بلده . حتى إن اختيارات النظام لرجاله ووزرائه، كانت تنتقيهم بمواصفات شاذة، فأغلبيتهم العظمى بغير نشأة وتربية سياسية طبيعية، أو فهم للسياسة داخلياً وخارجياً، لأنه كان مطلوباً منهم أن يديروا الدولة كأنها شركة تجارية تحقق أرباحاً لمجلس الإدارة والمساهمين .

كانت مصر بلا سياسة بالمعنى العلمي للكلمة وما تجري في إطاره ليس بدولة، فالدولة حسب المقاييس المعروفة والمستقرة غائبة تماماً عن العقليات الغافلة الراكدة، الضحلة سياسياً، فانقطعت صلتهم بالمجتمع في مصر، وما كان يدور فيه، سواء ما هو ظاهر للعيان، أو ما كان يتحرك تحت السطح، وحين كانت أصوات تصدر من النخبة، وكثير منها نُشر في كتب ومقالات، تحذرهم من مغبة ما يفعلون، ومن لحظة انفجار مقبلة في أي لحظة، فإن العقل الضامر يستنكر تحذيراتهم لأنه كان قد فقد الإحساس بالبلد الذي انعزلوا عنه حساً وعقلاً وانتماءً .

ولم تقتصر عزلتهم عن الداخل، بل شملت غفلتهم عن تحولات تجري في العالم، وتضع أمام كل ذي عينين، حقيقة تصرخ بأن التغيير صار هو فلسفة العصر وقاعدة عمله، وإن كل الأفكار والمسلمات التقليدية في السياسة والاقتصاد، والأمن القومي، والعلاقات الدولية، تتغير، فإن النظام الذي تقوقع حول ذاته كان قد فقد الحس الفعلي والإنساني، حتى يفهم ويستوعب .

إن كثيرين نزلوا إلى حلبة سباق الرئاسة، وينبغي على من يدخل التصفية النهائية أن يكون مستوعباً لمرارة التجربة التي مرت بها مصر، ليس فقط لشكل ونوعية السياسات، بل أيضاً لأسلوب إدارة الحكم، الذي يمكن أن ينقل إلى أي منهم عدوى عقيدة حضرة صاحب الدولة .