محمد عبد اللطيف آل الشيخ
ظل فكر (الخوارج) منذ مئات السنين كامناً في الذهنية الثورية الإسلامية، غير أن الذي أضافه ابن لادن إلى هذا الفكر أنه أعاد إنتاجه بما يتواءم مع العصر وشروط العصر، وقدم له تمويناً مادياً ضخماً، ما جعل قدرته على تجنيد الأتباع عبر البلاد الإسلامية حاضراً وبقوة، كما جعل قدرته على تمويل العمليات الإرهابية (الضخمة) ممكناً أيضاً. ابن لادن لم يكن هو العقل الحركي المخطط والمنظم لعمليات القاعدة كما يتفق المراقبون، وإنما كان مجرد (رمز)، أخذ جاذبيته من كونه هجر حياة الترف والثروة والغنى وملذات الدنيا، وعاش في أفغانستان. كان أتباعه يحرصون على إظهاره بهذا المظهر، والإصرار على أنه يعيش في جبال تورا بورا معيشة يلفها الزهد وشظف العيش وخشونته من كل جانب، كل ذلك لكي تتكرس صورة المجاهد الزاهد في أذهان الناس؛ بينما أنه كان يعيش في قصر بقرب إسلام أباد، يتمتع فيه بكل متع الحياة، كأي إنسان آخر يعيش في عصرنا؛ فلا حياة كهوف ولا شيء من هذه (الأساطير) كما اتضح بعد مقتله.
نهاية ابن لادن يعني أن عاملين من ثلاثة عوامل تتشكل منها قوة (القاعدة) انتهت. فالقائد الرمز، أو الأسطورة انتهت، والتمويل المالي أيضاً انتهى؛ لذلك لم يبق إلا الفكر، غير أن الفكر وحده لا يمكن أن يُشكل مبررات كافية لقيام فضلاً عن بقاء أي تنظيم؛ ففكر التغيير الدموي لولا تمويل ابن لادن، وظروف أفغانستان، لما عاد إلى الحياة من جديد.
النقطة الثانية أن ظهور ابن لادن والقاعدة، كان له أسباب موضوعية وتاريخية لا يمكن إغفالها، فحربه ضد السوفييت في البداية، واستغلاله للبيئة الأفغانية بعد انسحابهم من أفغانستان، أعطياه مساحة واسعة استطاع من خلالها أن يؤسس (للقاعدة)، وأن يجعل من أفغانستان بمثابة الرحم الذي احتضن التنظيم عند نشأته، والملاذ الجغرافي الذي فيه يجري التخطيط والتدريب والحركة والشحن الأيديولوجي، ومن ثم الانطلاق لتنفيذ الأهداف. هذه المساحة انتهت أو تكاد الآن، الأمر الذي يجعل بقاء القاعدة، كتنظيم، فضلاً عن قدرتها على العمل، في منتهى الصعوبة.
ولا أرى متضرراً من غياب ابن لادن مثل الأنظمة البوليسية العربية. فقد كان ابن لادن (الفزاعة) التي تخوف بها الأنظمة المستبدة الخارج والداخل معاً، وهذا ما اتضح بعد أن لجأ القذافي -مثلاً- إلى رفع فزاعة القاعدة وابن لادن مذ البداية في وجه من طالبوه في البداية بالإصلاح السياسي من أبناء شعبه، ففتح عليهم نيران جيشه، وأمعن فيهم ذبحاً وتقتيلاً بكل وحشية، والحجة أن من قاموا ضده هم من (جرذان) القاعدة كما كان يصفهم، وأن سقوطه يعني أن القاعديين قادمون. غير أن هذه الفرية لم يستطع تمريرها ولا تبريرها، وهاهم أبناء شعبه يحاصرونه من كل جانب، ويضيقون عليه الخناق، وليس ثمة مفر من السقوط طال الزمن أو قصر. بشار الأسد -أيضاً- كرر موقف القذافي، وادعى أن السلفيين الجهاديين هم من يديرون (المؤامرة) لإسقاط نظامه، وأن الدبابات التي دكت مساجد (درعا) وبيوت أهلها، لم تدك المدنيين العزل، وإنما كانت تستهدف (المتسللين) الجهاديين، الذين أرادوا أن يقيموا في درعا (إمارة إسلامية)؛ ومثلما أخفق القذافي أخفق بشار أيضاً، وعجز هو الآخر عن أن يدافع عن قتله لجموع المتظاهرين والمحتجين من مواطنيه بهذه الشراسة غير المبررة.
ظاهرة ابن لادن، بل وظاهرة الإسلام الدموي برمته، هي الفزاعة التي مكنت كثير من الأنظمة البوليسية أن تستمر. لذلك فإن أكثر المتضررين من غياب ابن لادن، هي الأنظمة التي قفزت إلى الحكم من على ظهر دبابة، واستمروا دونما شرعية، ولم تعرف بلدانهم شيئاً اسمه (تنمية)، والصور القادمة من ليبيا (الدولة النفطية) تقول الكثير.
إلى اللقاء.
التعليقات